فهذا الكتاب
المبين ليس إذن من عمل البشر ، وهم لا يستطيعونه ؛ إنما هو الوحي الذي يتلوه الله
على عبده ، ويبدو فيه إعجاز صنعته ، كما يبدو فيه طابع الحق المميز لهذه الصنعة في
الكبير والصغير :
(نَتْلُوا عَلَيْكَ
مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ..
فإلى القوم
المؤمنين يوجه هذا الكتاب ؛ يربيهم به وينشئهم ويرسم لهم المنهاج ، ويشق لهم
الطريق. وهذا القصص المتلو في السورة ، مقصود به أولئك المؤمنين ، وهم به ينتفعون.
وهذه التلاوة
المباشرة من الله ، تلقي ظلال العناية والاهتمام بالمؤمنين ؛ وتشعرهم بقيمتهم
العظيمة ومنزلتهم العالية الرفيعة. وكيف؟ والله ذو الجلال يتلو على رسوله الكتاب
من أجلهم ، ولهم ؛ بصفتهم هذه التي تؤهلهم لتلك العناية الكريمة : (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).
وبعد هذا
الافتتاح يبدأ في عرض النبأ. نبأ موسى وفرعون. يبدأ في عرضه منذ أول حلقة في القصة
ـ حلقة ميلاده ـ ولا تبدأ مثل هذا البدء في أية سورة أخرى من السور الكثيرة التي
وردت فيها. ذلك أن الحلقة الأولى من قصة موسى ، والظروف القاسية التي ولد فيها ؛
وتجرده في طفولته من كل قوة ومن كل حيلة ؛ وضعف قومه واستذلالهم في يد فرعون ..
ذلك كله هو الذي يؤدي هدف السورة الرئيسي ؛ ويبرز يد القدرة سافرة متحدية تعمل
وحدها بدون ستار من البشر ؛ وتضرب الظلم والطغيان والبغي ضربة مباشرة عند ما يعجز
عن ضربها البشر ؛ وتنصر المستضعفين الذين لا حول لهم ولا قوة ؛ وتمكن للمعذبين
الذين لا حيلة لهم ولا وقاية. وهو المعنى الذي كانت القلة المسلمة المستضعفة في
مكة في حاجة إلى تقريره وتثبيته ؛ وكانت الكثرة المشركة الباغية الطاغية في حاجة
إلى معرفته واستيقانه.
ولقد كانت قصة
موسى ـ عليهالسلام ـ تبدأ غالبا في السور الأخرى من حلقة الرسالة ـ لا من
حلقة الميلاد ـ حيث يقف الإيمان القوي في وجه الطغيان الباغي ؛ ثم ينتصر الإيمان
وينخذل الطغيان في النهاية. فأما هنا فليس هذا المعنى هو المقصود ؛ إنما المقصود
أن الشرّ حين يتمحض يحمل سبب هلاكه في ذاته ؛ والبغي حين يتمرد لا يحتاج إلى من
يدفعه من البشر ؛ بل تتدخل يد القدرة وتأخذ بيد المستضعفين المعتدى عليهم ،
فتنقذهم وتستنقذ عناصر الخير فيهم ، وتربيهم ، وتجعلهم أئمة ، وتجعلهم الوارثين.
فهذا هو الغرض
من سوق القصة في هذه السورة ؛ ومن ثم عرضت من الحلقة التي تؤدي هذا الغرض وتبرزه ،
والقصة في القرآن تخضع في طريقة عرضها للغرض المراد من هذا العرض. فهي أداة تربية
للنفوس ، ووسيلة تقرير لمعان وحقائق ومبادئ. وهي تتناسق في هذا مع السياق الذي
تعرض فيه ، وتتعاون في بناء القلوب ، وبناء الحقائق التي تعمر هذه القلوب.
والحلقات
المعروضة من القصة هنا هي : حلقة مولد موسى ـ عليهالسلام ـ وما أحاط بهذا المولد من ظروف قاسية في ظاهرها ، وما
صاحبه من رعاية الله وعنايته. وحلقة فتوته وما آتاه الله من الحكم والعلم ، وما
وقع فيها من قتل القبطي ، وتآمر فرعون وملئه عليه ، وهربه من مصر إلى أرض مدين ،
وزواجه فيها ، وقضاء سنوات الخدمة بها. وحلقة النداء والتكليف بالرسالة. ثم مواجهة
فرعون وملئه وتكذيبهم لموسى وهارون. والعاقبة الأخيرة ـ الغرق ـ مختصرة سريعة.
ولقد أطال
السياق في عرض الحلقة الأولى والحلقة الثانية ـ وهما الحلقتان الجديدتان في القصة
في هذه السورة ـ لأنهما تكشفان عن تحدي القدرة السافرة للطغيان الباغي. وفيها
يتجلى عجز قوة فرعون وحيلته وحذره عن دفع القدر المحتوم والقضاء النافذ : (وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ
وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ).