قائمة الکتاب

    إعدادات

    في هذا القسم، يمكنك تغيير طريقة عرض الكتاب
    بسم الله الرحمن الرحيم

    في ظلال القرآن [ ج ٤ ]

    في ظلال القرآن [ ج ٤ ]

    414/706
    *

    لذلك امتن الله على رسوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن ثبته على ما أوحى الله ، وعصمه من فتنة المشركين له ، ووقاه الركون إليهم ـ ولو قليلا ـ ورحمه من عاقبة هذا الركون ، وهي عذاب الدنيا والآخرة مضاعفا ، وفقدان المعين والنصير.

    وعند ما عجز المشركون عن استدراج الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى هذه الفتنة حاولوا استفزازه من الأرض ـ أي مكة ـ ولكن الله أوحى إليه أن يخرج هو مهاجرا ، لما سبق في علمه من عدم إهلاك قريش بالإبادة. ولو أخرجوا الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عنوة وقسرا لحل بهم الهلاك (وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً) فهذه هي سنة الله النافذة : (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا ، وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً).

    ولقد جعل الله هذه سنة جارية لا تتحول ، لأن إخراج الرسل كبيرة تستحق التأديب الحاسم. وهذا الكون تصرفه سنن مطردة ، لا تتحول أمام اعتبار فردي. وليست المصادفات العابرة هي السائدة في هذا الكون ، إنما هي السنن المطردة الثابتة. فلما لم يرد الله أن يأخذ قريشا بعذاب الإبادة كما أخذ المكذبين من قبل ، لحكمة علوية ، لم يرسل الرسول بالخوارق ، ولم يقدر أن يخرجوه عنوة ، بل أوحى إليه بالهجرة. ومضت سنة الله في طريقها لا تتحول ..

    * * *

    بعد ذلك يوجه الله رسوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى الاتصال به ، واستمداد العون منه ، والمضي في طريقه ، يعلن انتصار الحق وزهوق الباطل :

    (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ، وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ، إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً ؛ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ ، عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً ، وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً. وَقُلْ : جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ ، إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً. وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ، وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) ..

    ودلوك الشمس هو ميلها إلى المغيب. والأمر هنا للرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ خاصة. أما الصلاة المكتوبة فلها أوقاتها التي تواترت بها أحاديث الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وتواترت بها سنته العملية. وقد فسر بعضهم دلوك الشمس بزوالها عن كبد السماء ، والغسق بأول الليل ، وفسر قرآن الفجر بصلاة الفجر ، وأخذ من هذا أوقات الصلاة المكتوبة وهي الظهر والعصر والمغرب والعشاء ـ من دلوك الشمس إلى الغسق ـ ثم الفجر. وجعل التهجد وحده هو الذي اختص رسول الله بأن يكون مأمورا به ، وأنه نافلة له. ونحن نميل إلى الرأي الأول. وهو أن كل ما ورد في هذه الآيات مختص بالرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأن أوقات الصلاة المكتوبة ثابتة بالسنة القولية والعملية.

    (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) .. أقم الصلاة ما بين ميل الشمس للغروب وإقبال الليل وظلامه ؛ واقرأ قرآن الفجر (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) .. ولهذين الآنين خاصيتهما وهما إدبار النهار وإقبال الليل. وإدبار الليل وإقبال النهار. ولهما وقعهما العميق في النفس ، فإن مقدم الليل وزحف الظلام ، كمطلع النور وانكشاف الظلمة .. كلاهما يخشع فيه القلب ، وكلاهما مجال للتأمل والتفكر في نواميس الكون التي لا تفتر لحظة ولا تختل مرة. وللقرآن ـ كما للصلاة ـ إيقاعه في الحس في مطلع الفجر ونداوته ، ونسماته الرخية ، وهدوئه السارب ، وتفتحه بالنور ، ونبضه بالحركة ، وتنفسه بالحياة.