(إِنَّما يَفْتَرِي
الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ. وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) ..
فالكذب جريمة
فاحشة لا يقدم عليها مؤمن. وقد نفى الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ في حديث له صدورها عن المسلم ، وإن كان يصدر عنه غيرها من الذنوب.
* * *
ثم ينتقل السياق
إلى بيان أحكام من يكفر بعد الإيمان :
(مَنْ كَفَرَ بِاللهِ
مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ ـ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ
بِالْإِيمانِ ـ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ
اللهِ ، وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ
الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ ، وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ.
أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ ،
وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ. لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ
الْخاسِرُونَ) ..
ولقد لقي
المسلمون الأوائل في مكة من الأذى ما لا يطيقه إلا من نوى الشهادة ، وآثر الحياة
الأخرى ، ورضي بعذاب الدنيا عن العودة إلى ملة الكفر والضلال.
والنص هنا يغلظ
جريمة من كفر بالله من بعد إيمانه. لأنه عرف الإيمان وذاقه ، ثم ارتد عنه إيثارا
للحياة الدنيا على الآخرة. فرماهم بغضب من الله ، وبالعذاب العظيم ، والحرمان من
الهداية ؛ ووصمهم بالغفلة وانطماس القلوب والسمع والأبصار ؛ وحكم عليهم بأنهم في
الآخرة هم الخاسرون .. ذلك أن العقيدة لا يجوز أن تكون موضع مساومة ، وحساب للربح
والخسارة. ومتى آمن القلب بالله فلا يجوز أن يدخل عليه مؤثر من مؤثرات هذه الأرض ؛
فللأرض حساب ، وللعقيدة حساب ولا يتداخلان. وليست العقيدة هزلا ، وليست صفقة قابلة
للأخذ والرد فهي أعلى من هذا وأعز. ومن ثم كل هذا التغليظ في العقوبة ، والتفظيع
للجريمة.
واستثنى من ذلك
الحكم الدامغ من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان. أي من أظهر الكفر بلسانه نجاة لروحه
من الهلاك ، وقلبه ثابت على الإيمان مرتكن إليه مطمئن به. وقد روي أن هذه الآية
نزلت في عمار بن ياسر.
روى ابن جرير ـ
بإسناده ـ عن أبي عبيدة محمد بن عمار بن ياسر قال : أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه
حتى قاربهم في بعض ما أرادوا. فشكا ذلك إلى النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فقال النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ «كيف تجد قلبك؟» قال : مطمئنا بالإيمان. قال النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «إن عادوا فعد» .. فكانت رخصة في مثل هذه الحال.
وقد أبى بعض
المسلمين أن يظهروا الكفر بلسانهم مؤثرين الموت على لفظة باللسان. كذلك صنعت سمية
أم ياسر ، وهي تطعن بالحربة في موضع العفة حتى تموت وكذلك صنع أبوه ياسر.
وقد كان بلال ـ
رضوان الله عليه ـ يفعل المشركون به الأفاعيل حتى ليضعون الصخرة العظيمة على صدره
في شدة الحر ، ويأمرونه بالشرك بالله ، فيأبى عليهم وهو يقول : أحد. أحد. ويقول :
والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها.
وكذلك. حبيب بن
زيد الأنصاري لما قال له مسيلمة الكذاب : أتشهد أن محمدا رسول الله. فيقول : نعم.
فيقول : أتشهد أني رسول الله؟ فيقول : لا أسمع! فلم يزل يقطعه إربا إربا ، وهو
ثابت على ذلك.
وذكر الحافظ
ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن حذيفة السهمي ـ أحد الصحابة رضوان الله عليهم ـ أنه