لن يعيشوا بعدها في سلام مع الجاهلية الضاربة الأطناب من حولهم في الجزيرة وبين ظهرانيهم في المدينة.
ومن رواية ابن كثير في كتابه : «البداية والنهاية» : «قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر ابن خيثم ، عن أبي الزبير ، عن جابر. قال : مكث رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بمكة عشر سنين ، يتبع الناس في منازلهم .. عكاظ والمجنة .. وفي المواسم ، يقول : «من يؤويني؟ من ينصرني؟ حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة». فلا يجد أحدا يؤويه ولا ينصره. حتى إن الرجل ليخرج من اليمن ، أو من مضر ـ كذا قال فيه ـ فيأتيه قومه وذوو رحمه فيقولون : احذر غلام قريش لا يفتنك. ويمضي بين رجالهم وهم يشيرون إليه بالأصابع حتى بعثنا الله إليه من يثرب ، فآويناه وصدقناه ، فيخرج الرجل منا فيؤمن به ، ويقرئه القرآن فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه ، حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام. ثم ائتمروا جميعا ، فقلنا : حتى متى نترك رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف؟ فرحل إليه منا سبعون رجلا حتى قدموا عليه في الموسم (١) ، فواعدناه شعب العقبة ، فاجتمعنا عندها من رجل ورجلين ، حتى توافينا. فقلنا : يا رسول الله علام نبايعك؟ قال : «تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل ، والنفقة في العسر واليسر ، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأن تقولوا في الله لا تخافوا في الله لومة لائم ، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ، ولكم الجنة». فقمنا إليه وأخذ بيده أسعد بن زرارة ـ وهو من أصغرهم ـ وفي رواية البيهقي ـ وهو أصغر السبعين ـ إلا أنا. فقال : رويدا يا أهل يثرب فإنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله ، وإن إخراجه اليوم مناوأة للعرب كافة ، وقتل خياركم ، وتعضكم السيوف. فإما أنتم قوم تصبرون على ذلك فخذوه وأجركم على الله ، وإما أنتم قوم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه ، فبينوا ذلك فهو أعذر لكم عند الله .. قالوا : أبط عنا يا أسعد! فو الله لا ندع هذه البيعة ، ولا نسلبها أبدا! قال : فقمنا إليه ، فبايعناه ، وأخذ علينا وشرط ، ويعطينا على ذلك الجنة» (وقد رواه الإمام أحمد أيضا والبيهقي من طريق داود بن عبد الرحمن العطار ـ زاد البيهقي عن الحاكم ـ بسنده إلى يحيى بن سليم كلاهما عن عبد الله بن عثمان بن خيثم عن أبي إدريس به نحوه. وهذا إسناد جيد على شرط مسلم ولم يخرجوه. وقال البزار : وروى غير واحد غير ابن خيثم ، ولا نعلمه يروى عن جابر إلا من هذا الوجه).
فقد كان الأنصار إذن يعلمون ـ عن يقين واضح ـ تكاليف هذه البيعة ؛ وكانوا يعلمون أنهم لم يوعدوا على هذه التكاليف شيئا في هذه الحياة الدنيا ـ حتى ولا النصر والغلبة ـ وأنهم لم يوعدوا عليها إلا الجنة .. ثم كان هذا مدى وعيهم بها ومدى حرصهم عليها .. فلا جرم أن يكونوا ـ مع السابقين من المهاجرين الذين بنوا هذا البناء وأعدوا هذا الإعداد ـ هم القاعدة الصلبة للمجتمع المسلم أول العهد بالمدينة ..
ولكن مجتمع المدينة لم يظل بهذا الخلوص والنقاء .. لقد ظهر الإسلام وفشا في المدينة ؛ واضطر أفراد كثيرون ـ ومعظمهم من ذوي المكانة في قومهم ـ أن يجاروا قومهم احتفاظا بمكانتهم فيهم .. حتى إذا كانت وقعة بدر قال كبير هؤلاء عبد الله بن أبيّ بن سلول : هذا أمر قد توجه! وأظهر الإسلام نفاقا. ولا بد أن كثيرين قد جرفتهم الموجة فدخلوا في الإسلام تقليدا ـ ولو لم يكونوا منافقين ـ ولكنهم لم يكونوا بعد قد فقهوا في الإسلام ولا انطبعوا بطابعه .. مما أنشأ تخلخلا في بناء المجتمع المدني ناشئا عن اختلاف مستوياته الإيمانية.
__________________
(١) المحقق أنهم اثنان وسبعون : ولكن العرب كثيرا ما تحذف الكسر!