قائمة الکتاب

    إعدادات

    في هذا القسم، يمكنك تغيير طريقة عرض الكتاب
    بسم الله الرحمن الرحيم

    في ظلال القرآن [ ج ٣ ]

    في ظلال القرآن [ ج ٣ ]

    160/654
    *

    ويلفتهم إلى العبرة في مصارع الغابرين الذين ورثوا هم الأرض من بعدهم ، فإنما تنتظرهم سنة الله التي لا تتبدل ، والتي يتكيف بها تاريخ البشر على مدارج القرون.

    وتنتهي الوقفة بتوجيه الخطاب إلى الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «تلك القرى نقص عليك من أنبائها ...» لإظهاره على سنة الله فيها ، وعلى حقيقة هذه القرى وأهلها : (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ) .. فهذا الرسول الأخير وأمته هم الوارثون لحصيلة رسالة الله كلها ، وهم الذين يفيدون من أنبائها وعظاتها ..

    * * *

    (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ. ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا ، وَقالُوا : قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ. فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ؛ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) ..

    إن السياق القرآني هنا لا يروي حادثة ، إنما يكشف عن سنة. ولا يعرض سيرة قوم إنما يعلن عن خطوات قدر .. ومن ثم يتكشف أن هناك ناموسا تجري عليه الأمور ؛ وتتم وفقه الأحداث ؛ ويتحرك به تاريخ «الإنسان» في هذه الأرض. وأن الرسالة ذاتها ـ على عظم قدرها ـ هي وسيلة من وسائل تحقيق الناموس ـ وهو أكبر من الرسالة وأشمل ـ وأن الأمور لا تمضي جزافا ؛ وأن الإنسان لا يقوم وحده في هذه الأرض ـ كما يزعم الملحدون بالله في هذا الزمان! ـ وأن كل ما يقع في هذا الكون إنما يقع عن تدبير ، ويصدر عن حكمة ، ويتجه إلى غاية. وأن هنا لك في النهاية سنة ماضية وفق المشيئة الطليقة ؛ التي وضعت السنة ، وارتضت الناموس ..

    ووفقا لسنة الله الجارية وفق مشيئته الطليقة كان من أمر تلك القرى ما كان ، مما حكاه السياق. ويكون من أمر غيرها ما يكون!

    إن إرادة الإنسان وحركته ـ في التصور الإسلامي ـ عامل مهم في حركة تاريخه وفي تفسير هذا التاريخ أيضا. ولكن إرادة الإنسان وحركته إنما يقعان في اطار من مشيئة الله الطليقة وقدره الفاعل .. والله بكل شيء محيط .. وإرادة الإنسان وحركته ـ في اطار المشيئة الطليقة والقدر الفاعل ـ يتعاملان مع الوجود كله ؛ ويتأثران ويؤثران في هذا الوجود أيضا .. فهناك زحمة من العوامل والعوالم المحركة للتاريخ الإنساني ؛ وهناك سعة وعمق في مجال هذه الحركة ؛ مما يبدو إلى جانبه «التفسير الاقتصادي للتاريخ» ، و «التفسير البيولوجي للتاريخ» ، و «التفسير الجغرافي للتاريخ» ... بقعا صغيرة في الرقعة الكبيرة. وعبثا صغيرا من عبث الإنسان الصغير! (١).

    (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) ..

    فليس للعبث ـ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ـ يأخذ الله عباده بالشدة في أنفسهم وأبدانهم وأرزاقهم وأموالهم. وليس لإرواء غلة ولا شفاء إحنة ـ كما كانت أساطير الوثنيات تقول عن آلهتها العابثة الحاقدة (٢)! إنما يأخذ الله المكذبين برسله بالبأساء والضراء ، لأن من طبيعة الابتلاء بالشدة أن يوقظ الفطرة التي ما يزال فيها خير يرجى ؛ وأن يرقق القلوب التي طال عليها الأمد متى كانت فيها بقية ؛ وأن يتجه بالبشر الضعاف إلى خالقهم القهار ؛ يتضرعون إليه ؛ ويطلبون رحمته وعفوه ؛ ويعلنون بهذا التضرع عن عبوديتهم له ـ

    __________________

    (١) يراجع ما جاء عن هذا الموضوع في الجزء الثامن ص ١٢٧٠ ـ ١٢٧٦

    (٢) يراجع في القسم الأول من كتاب : «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» فصل : «تيه وركام» وفصل «الإيجابية». «دار الشروق».