(لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا) ..
فيجعلون من تخلفهم حكمة ومصلحة ، ويجعلون من طاعة الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ واتباعه مغرما ومضرة. وأكثر من هذا كله يفسدون التصور الإسلامي الناصع لقدر الله ، ولحتمية الأجل ، ولحقيقة الموت والحياة ، وتعلقهما بقدر الله وحده .. ومن ثم يبادرهم بالرد الحاسم الناصع ، الذي يرد كيدهم من ناحية ، ويصحح التصور الإسلامي ويجلو عنه الغبش من ناحية :
(قُلْ : فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ..
فالموت يصيب المجاهد والقاعد ، والشجاع والجبان. ولا يرده حرص ولا حذر. ولا يؤجله جبن ولا قعود .. والواقع هو البرهان الذي لا يقبل المراء .. وهذا الواقع هو الذي يجبههم به القرآن الكريم ، فيرد كيدهم اللئيم ، ويقر الحق في نصابه ، ويثبت قلوب المسلمين. ويسكب عليها الطمأنينة والراحة واليقين ..
ومما يلفت النظر في الاستعراض القرآني لأحداث المعركة ، تأخيره ذكر هذا الحادث ـ حادث نكول عبد الله ابن أبي ومن معه عن المعركة ـ وقد وقع في أول أحداثها وقبل ابتدائها .. تأخيره إلى هذا الموضع من السياق ..
وهذا التأخير يحمل سمة من سمات منهج التربية القرآنية .. فقد أخره حتى يقرر جملة القواعد الأساسية للتصور الإسلامي التي قررها ؛ وحتى يقر في الأخلاد جملة المشاعر الصحيحة التي أقرها ؛ وحتى يضع تلك الموازين الصادقة للقيم التي وضعها .. ثم يشير هذه الإشارة إلى (الَّذِينَ نافَقُوا). وفعلتهم وتصرفهم بعدها ، وقد تهيأت النفوس لإدراك ما في هذه الفعلة وما في هذا التصرف من انحراف عن التصور الصحيح ، وعن القيم الصحيحة في الميزان الصحيح .. وهكذا ينبغي أن تنشأ التصورات والقيم الإيمانية في النفس المسلمة ، وأن توضع لها الموازين الصحيحة التي تعود إليها لاختبار التصورات والقيم ، ووزن الأعمال والأشخاص ، ثم تعرض عليها الأعمال والأشخاص ـ بعد ذلك ـ فتحكم عليها الحكم المستنير الصحيح ، بذلك الحس الإيماني الصحيح ..
ولعل هنالك لفتة أخرى من لفتات المنهج الفريد. فعبد الله بن أبيّ كان إلى ذلك الحين ما يزال عظيما في قومه ـ كما أسلفنا ـ وقد ورم أنفه لأن النبي صلىاللهعليهوسلم لم يأخذ برأيه ـ لأن إقرار مبدأ الشورى وإنفاذه اقتضى الأخذ بالرأي الآخر الذي بدا رجحان الاتجاه إليه في الجماعة ـ وقد أحدث تصرف هذا المنافق الكبير رجة في الصف المسلم ، وبلبلة في الأفكار ، كما أحدثت أقاويله بعد ذلك عن القتلى حسرات في القلوب وبلبلة في الخواطر .. فكان من حكمة المنهج إظهار الاستهانة به وبفعلته وبقوله ؛ وعدم تصدير الاستعراض القرآني لأحداث الغزوة بذلك الحادث الذي وقع في أولها ؛ وتأخيره إلى هذا الموضع المتأخر من السياق. مع وصف الفئة التي قامت به بوصفها الصحيح : (الَّذِينَ نافَقُوا) والتعجيب من أمرهم في هذه الصيغة المجملة : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا؟) ، وعدم إبراز اسم كبيرهم أو شخصه ، ليبقى نكرة في : (الَّذِينَ نافَقُوا) كما يستحق من يفعل فعلته ، وكما تساوي حقيقته في ميزان الإيمان .. ميزان الإيمان الذي أقامه فيما سبق من السياق ..
* * *
وبعد أن تستريح القلوب ، وتستقر الضمائر على حقيقة السنن الجارية في الكون ، وعلى حقيقة قدر الله في الأمور ، وعلى حقيقة حكمة الله من وراء التقدير والتدبير .. ثم على حقيقة الأجل المكتوب ، والموت المقدور ، الذي لا يؤجله قعود ، ولا يقدمه خروج ، ولا يمنعه حرص ولا حذر ولا تدبير ..
١٦٩ ـ بعد ذلك يمضي السياق في بيان حقيقة أخرى .. حقيقة ضخمة في ذاتها وضخمة في آثارها .. حقيقة أن الذين