بكل شيء ، في تناسق وتوازن ..
وهذا الذي وقع في غزوة أحد ، مثل لهذا الذي نقوله عن التصور الإسلامي الشامل الكامل. فقد عرف الله المسلمين سنته وشرطه في النصر والهزيمة. فخالفوا هم عن سنته وشرطه ، فتعرضوا للألم والقرح الذي تعرضوا له .. ولكن الأمر لم ينته عند هذا الحد ، فقد كان وراء المخالفة والألم تحقيق قدر الله في تمييز المؤمنين من المنافقين في الصف ، وتمحيص قلوب المؤمنين وتجلية ما فيها من غبش في التصور ، ومن ضعف أو قصور ..
وهذا بدوره خير ينتهي إليه أمر المسلمين ـ من وراء الألم والضر ـ وقد نالوه وفق سنة الله كذلك. فمن سنته أن المسلمين الذين يسلمون بمنهج الله ويستسلمون له في عمومه ، يعينهم الله ويرعاهم ، ويجعل من أخطائهم وسيلة لخيرهم النهائي ـ ولو ذاقوا مغبتها من الألم ـ لأن هذا الألم وسيلة من وسائل التمحيص والتربية والإعداد.
وعلى هذا الموقف الصلب المكشوف تستريح أقدام المسلمين وتطمئن قلوبهم ، بلا أرجحة ولا قلق ولا حيرة ، وهم يواجهون قدر الله ، ويتعاملون مع سنته في الحياة ؛ وهم يحسون أن الله يصنع بهم في أنفسهم وفيمن حولهم ما يريده ، وأنهم أداة من أدوات القدر يفعل بها الله ما يشاء ، وأن خطأهم وصوابهم ـ وكل ما يلقونه من نتائج لخطئهم وصوابهم ـ متساوق مع قدر الله وحكمته ، وصائر بهم إلى الخير ما داموا في الطريق :
(وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ .. وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا ، وَقِيلَ لَهُمْ : تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا ، قالُوا : لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ. هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ. يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ. وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) ..
١٦٧ ـ وهو يشير في هذه الآية إلى موقف عبد الله بن أبي بن سلول ، ومن معه ، ويسميهم : (الَّذِينَ نافَقُوا) .. وقد كشفهم الله في هذه الموقعة ، وميز الصف الإسلامي منهم. وقرر حقيقة موقفهم يومذاك : (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ) .. وهم غير صادقين في احتجاجهم بأنهم يرجعون لأنهم لا يعلمون أن هناك قتالا سيكون بين المسلمين والمشركين. فلم يكن هذا هو السبب في حقيقة الأمر ، وإنما هم : (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) .. فقد كان في قلوبهم النفاق ، الذي لا يجعلها خالصة للعقيدة ، وإنما يجعل أشخاصهم واعتباراتها فوق العقيدة واعتباراتها. فالذي كان برأس النفاق ـ عبد الله بن أبي ـ أن رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ لم يأخذ برأيه يوم أحد. والذي كان به قبل هذا أن قدومه ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إلى المدينة بالرسالة الإلهية حرمه ما كانوا يعدونه له من الرياسة فيهم ، وجعل الرياسة لدين الله ، ولحامل هذا الدين! .. فهذا الذي كان في قلوبهم ، والذي جعلهم يرجعون يوم أحد ، والمشركون على أبواب المدينة ، وجعلهم يرفضون الاستجابة إلى المسلم الصادق عبد الله بن عمرو بن حرام ، وهو يقول لهم : (تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا) محتجين بأنهم لا يعلمون أن هناك قتالا! وهذا ما فضحهم الله به في هذه الآية :
(وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) ..
١٦٨ ـ ثم مضى يكشف بقية موقفهم في محاولة خلخلة الصفوف والنفوس :
(الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ ـ وَقَعَدُوا ـ لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا) ..
فهم لم يكتفوا بالتخلف ـ والمعركة على الأبواب ـ وما يحدثه هذا التخلف من رجة وزلزلة في الصفوف والنفوس ، وبخاصة أن عبد الله بن أبي ، كان ما يزال سيدا في قومه ، ولم يكشف لهم نفاقه بعد ، ولم يدمغه الله بهذا الوصف الذي يهز مقامه في نفوس المسلمين منهم. بل راحوا يثيرون الزلزلة والحسرة في قلوب أهل الشهداء وأصحابهم بعد المعركة ، وهم يقولون :