والتطامن. فقد بدأوا يعلمون أنهم لم يؤتوا من العلم إلا قليلا! وبقي الجهال
المتعالمون الذين يحسبون أنهم قد علموا شيئا كثيرا!
(وَسِعَ كُرْسِيُّهُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ، وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما) ..
وقد جاء
التعبير في هذه الصورة الحسية في موضع التجريد المطلق ؛ على طريقة القرآن في
التعبير التصويري ، لأن الصورة هنا تمنح الحقيقة المراد تمثيلها للقلب قوة وعمقا
وثباتا. فالكرسي يستخدم عادة في معنى الملك. فإذا وسع كرسيه السماوات والأرض فقد
وسعهما سلطانه. وهذه هي الحقيقة من الناحية الذهنية. ولكن الصورة التي ترتسم في
الحس من التعبير بالمحسوس أثبت وأمكن. وكذلك التعبير بقوله : (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما) فهو كناية عن القدرة الكاملة. ولكنه يجيء في هذه الصورة
المحسوسة. صورة انعدام الجهد والكلال. لأن التعبير القرآني يتجه إلى رسم صور
للمعاني تجسمها للحس ، فتكون فيه أوقع وأعمق وأحس.
ولا حاجة بنا
إلى كل ما ثار من الجدل حول مثل هذه التعبيرات في القرآن ، إذا نحن فقهنا طريقة
القرآن التعبيرية ؛ ولم نستعر من تلك الفلسفات الأجنبية الغريبة التي أفسدت علينا
كثيرا من بساطة القرآن ووضوحه .
ويحسن أن أضيف
هنا أنني لم أعثر على أحاديث صحيحة في شأن الكرسي والعرش تفسر وتحدد المراد مما
ورد منها في القرآن. ومن ثم أوثر أن لا أخوض في شأنها بأكثر من هذا البيان.
(وَهُوَ الْعَلِيُّ
الْعَظِيمُ) ..
وهذه خاتمة الصفات
في الآية ، تقرر حقيقة ، وتوحي للنفس بهذه الحقيقة. وتفرد الله سبحانه بالعلو ،
وتفرده سبحانه بالعظمة. فالتعبير على هذا النحو يتضمن معنى القصر والحصر. فلم يقل
وهو عليّ عظيم ، ليثبت الصفة مجرد إثبات. ولكنه قال : (الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) ليقصرها عليه سبحانه بلا شريك!
إنه المتفرد
بالعلو ، المتفرد بالعظمة. وما يتطاول أحد من العبيد إلى هذا المقام إلا ويرده
الله إلى الخفض والهون ؛ وإلى العذاب في الآخرة والهوان. وهو يقول : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها
لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً) .. ويقول عن فرعون في معرض الهلاك : (إِنَّهُ كانَ عالِياً) ..
ويعلو الإنسان
ما يعلو ، ويعظم الإنسان ما يعظم ، فلا يتجاوز مقام العبودية لله العلي العظيم.
وعند ما تستقر هذه الحقيقة في نفس الإنسان ، فإنها تثوب به إلى مقام العبودية
وتطامن من كبريائه وطغيانه ؛ وترده إلى مخافة الله ومهابته ؛ وإلى الشعور بجلاله
وعظمته ؛ وإلى الأدب في حقه والتحرج من الاستكبار على عباده. فهي اعتقاد وتصور.
وهي كذلك عمل وسلوك ..
* * *
٢٥٦ ـ وعند ما
يصل السياق بهذه الآية إلى إيضاح قواعد التصور الإيماني في أدق جوانبها ، وبيان صفة
الله وعلاقة الخلق به هذا البيان المنير .. ينتقل إلى إيضاح طريق المؤمنين وهم
يحملون هذا التصور ؛ ويقومون بهذه الدعوة ؛ وينهضون بواجب القيادة للبشرية الضالة
الضائعة :
(لا إِكْراهَ فِي
الدِّينِ. قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ. فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ
وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ
لَها. وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ
مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ؛ وَالَّذِينَ كَفَرُوا
__________________