بما يلقيه أهل الكتاب هؤلاء من أباطيل وأكاذيب. وليس سبيل المؤمنين أن يأخذوا من هؤلاء الذين يستيقنون الحق ثم يكتمونه شيئا في أمر دينهم ، الذي يأتيهم به رسولهم الصادق الأمين.
* * *
١٤٧ ـ وهنا يوجه الخطاب إلى النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بعد هذا البيان بشأن أهل الكتاب :
(الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) ..
ورسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ما امترى يوما ولا شك. وحينما قال له ربه في آية أخرى : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ) .. قال : «لا أشك ولا أسأل» ..
ولكن توجيه الخطاب هكذا إلى شخصه ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يحمل إيحاء قويا إلى من وراءه من المسلمين. سواء منهم من كان في ذلك الحين يتأثر بأباطيل اليهود وأحابيلهم ، ومن يأتي بعدهم ممن تؤثر فيهم أباطيل اليهود وغير اليهود في أمر دينهم.
وما أجدرنا نحن اليوم أن نستمع إلى هذا التحذير ؛ ونحن ـ في بلاهة منقطعة النظير ـ نروح نستفتي المستشرقين ـ من اليهود والنصارى والشيوعيين الكفار ـ في أمر ديننا ، ونتلقى عنهم تاريخنا ، ونأمنهم على القول في تراثنا ، ونسمع لما يدسونه من شكوك في دراساتهم لقرآننا وحديث نبينا ، وسيرة أوائلنا ؛ ونرسل إليهم بعثات من طلابنا يتلقون عنهم علوم الإسلام ، ويتخرجون في جامعاتهم ، ثم يعودون إلينا مدخولي العقل والضمير.
إن هذا القرآن قرآننا. قرآن الأمة المسلمة. وهو كتابها الخالد الذي يخاطبها فيه ربها بما تعمله وما تحذره. وأهل الكتاب هم أهل الكتاب ، والكفار هم الكفار. والدين هو الدين!
١٤٨ ـ ونعود إلى السياق فنراه يصرف المسلمين عن الاستماع لأهل الكتاب والانشغال بتوجيهاتهم ، ويوحي إليهم بالاستقامة على طريقهم الخاص ووجهتهم الخاصة. فلكل فريق وجهته ، وليستبق المسلمون إلى الخير لا يشغلهم عنه شاغل ، ومصيرهم جميعا إلى الله القادر على جمعهم وعلى مجازاتهم في نهاية المطاف :
(وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها ، فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ ، أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً ، إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ..
وبهذا يصرف الله المسلمين عن الانشغال بما يبثه أهل الكتاب من دسائس وفتن وتأويلات وأقاويل .. يصرفهم إلى العمل والاستباق إلى الخيرات. مع تذكر أن مرجعهم إلى الله ، وأن الله قدير على كل شيء ، لا يعجزه أمر ، ولا يفوته شيء.
إنه الجد الذي تصغر إلى جواره الأقاويل والأباطيل ..
* * *
١٤٩ ـ ثم يعود فيؤكد الأمر بالاتجاه إلى القبلة الجديدة المختارة مع تنويع التعقيب :
(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ، وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) ..
والأمر في هذه المرة يخلو من الحديث عن أهل الكتاب وموقفهم ، ويتضمن الاتجاه إلى المسجد الحرام حيثما خرج النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وحيثما كان ، مع توكيد أنه الحق من ربه. ومع التحذير الخفي من الميل عن هذا الحق. التحذير الذي يتضمنه قوله : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) .. وهو الذي يشي بأنه كانت هناك حالة واقعة وراءه في قلوب بعض المسلمين تقتضي هذا التوكيد وهذا التحذير الشديد.