وقد أورد أبو حامد الغزالي مثالا يظهر به الفرق بين المحبّة التي بحسب تنزيه الله تعالى عنه وبين المحبّة الخالية عن النقص التي نصف الله تعالى بها وهو أنّ الملك قد يقرب عبده من نفسه ويأذن له في كلّ وقت أن يحضر بساطه ويحاوره لميل الملك ورغبته إليه إمّا ليستريح برؤيته أو يستشيره في بعض اموره أو يلتذّ بمكالمته ومحاورته أو يهيّئ له أسباب شرابه وطعامه أو غير ذلك ؛ فيقال الملك : «يحبّ هذا العبد» ومعنى حبّه له حينئذ ميله إليه وهذه هي المحبّة التي منشأها قصور المحبّ عن الكمال الأتمّ والله تعالى منزّه عن ذلك ؛ وقد يقرب عبدا ولا يمنعه من الدخول عليه ، بل يأذن له أن يحضر بساطه ويتصرّف في مملكته لا لاحتياجه إليه في جلب نفع أو دفع ضرّ لكون العبد في نفسه متّصفا بالكمالات النفسية والأخلاق الفاضلة المرضيّة بحيث يستحقّ مرتبة القرب من حضرة الملوك بحسب ذاته وصفاته ، لا يكون الملك محتاجا إلى قربه ؛ فإذا رفع الملك الحجاب عنه يقال : «قد أحبّه» وإذا اكتسب بعض الأخلاق الفاضلة الموجبة لزيادة كشف الحجاب يقال : «قد حبّب نفسه إلى الملك» وهذا المعنى من المحبّة يليق بالأوّل تعالى لا المعنى الأوّل بشرط أن لا يفهم منه عروض تغيّر له تعالى عند تجدّد القرب ؛ فإنّ الحبيب هو القريب من الله والقرب منه تعالى بالبعد من الرذائل والتخلّق بأخلاق الله تعالى ؛ فهو قرب بالمعنى والصفة لا بالمكان ؛ وحصول قرب للعبد بعد ما لم يكن له وإن اقتضى تغيّر وصف وحال له إلّا أنّه لا يوجب تبدّل صفة له تعالى ؛ لأنّه سبحانه لا يزال على ما كان من أزل الآزال على ما تقدّمت الإشارة إليه.
ثمّ الواجب سبحانه كما هو معشوق لذاته من ذاته كذلك هو معشوق من غيره وهو جميع الموجودات الصادرة منه المعلولة له المفتقرة إليه ؛ فإنّ جميعها عاشقة له مبتهجة به وأجلّ / A ١٥٨ / لذّاتها هو ابتهاجها به واستغراقها في ملاحظة جمال وجهه ومشاهدة عظمته ؛ فما من موجود إلّا وله عشق طبيعي وشوق غريزي إلى