أمّا في الآية التالية فإشارة إلى الذريعة الثالثة إذ تقول : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ). إذ يقولون : لو كان عذاب الله حقّاً على الكافرين فلم لا يأتينا؟!
فيجيب القرآن على هذه الذريعة بثلاثة أجوبة.
الأوّل : (وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَّجَاءَهُمُ الْعَذَابُ).
وهذا الزمان المعين (الأجل) إنّما هو لهدف أصلي ، للإرعواء عن باطلهم وتيقظهم ، أو إتمام الحجة عليهم.
والثاني : إنّ اولئك الذين يتذرّعون بهذا القول ما يدريهم لعلّ العذاب يأخذهم على حين غرةٍ من أنفسهم (وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَايَشْعُرُونَ) (١).
وبالرغم من أنّ موعد العذاب معين ومقرّر إلّاأنّ المصلحة تقتضي ألّا يطّلعوا عليه ، وأن يأتيهم دون مقدمات ، لأنّه لو عرف وقته لكان باعثاً على تجرؤ الكفار والمذنبين وجسارتهم .. وحين يأزف الوعد بالعذاب فإنّهم سيتجهون بالتوبة إلى الله وينيبون إليه.
والحكمة التربوية لمثل هذا العقاب تقتضي أن يكتم موعده ، لتكون كل لحظة ذات أثر بنفسها ، ويكون الخوف والإستيحاش منها عاملاً على الردع.
وأخيراً فإنّ الجواب القرآني الثالث يتبيّن في الآية إذ يقول : (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكفِرِينَ).
فإذا تأخر عنهم عذاب الدنيا ، فإنّ عذاب الآخرة واقع لا محالة ، ومحيط بهم تماماً وسيصيبهم حتماً بحيث إنّ القرآن يذكره بصورة أمر فعليّ (وكأنّ جهنم الآن محيطة بهم).
ويوجد تفسير آخر أكثر دقّةً لهذه الآية ، وهو أنّ جهنم محيطة ، الآن فعلاً بالكافرين ، من جهتين ـ بالمعنى الواقعي للكلمة.
الجهة الاولى : إنّها جهنم الدنيا ، إذ هم على أثر شركهم وتلوثهم بالذنب يحترقون بجهنم التي أعدّوها لأنفسهم.
والجهة الثانية : طبقاً لظاهر الآيات في القرآن فإنّ جهنم موجودة فعلاً ، فإنّ جهنم موجودة في باطن الدنيا ، وبهذا فهي محيطة بهم على نحو الحقيقة.
ثم يضيف القرآن : (يَوْمَ يَغْشهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا
__________________
(١) «البغتة» : مشتقة من «البغت» ومعناه التحقق المفاجىء وغير المنتظر لأمر.