القول في سورة البقرة
قوله عزوجل : (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) (٣) [البقرة : ٢ ، ٣].
[١٦ / ل] يتمسك به القدرية على عكس تمسكهم ب (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) (٧) [الفاتحة : ٧] وهو أنه نسب التقوى والإيمان إليهم نسبة الفعل إلى الفاعل / [٨ ب / م] فاقتضى أن لا جبر.
ويجاب عنه بنحو ما سبق ؛ من أنه أضيف إليهم ؛ لأنه كسبهم ، أو هم محل ظهوره ، أو لأنه لو فوض إليهم لفعلوه ، على ما سبق في قاعدته ، وهذا سؤال وجواب عامان في كل فعل نسب إلى المخلوقين ، فاعرفه فتكراره في كل مواطنه يصعب ، وربما حادثناك به المرة بعد المرة تذكرة بهذه القاعدة.
قوله ـ عزوجل ـ (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) (٣) [البقرة : ٣] هذه من مسائل الأرزاق والآجال ، وهو تابع لباب القدر.
واحتج بها المعتزلة على أن الحرام ليس من رزق الله ـ عزوجل ـ بل العبد يرزقه نفسه.
وتقريره : أن المنفق من رزق الله عزوجل ـ ممدوح بهذه الآية ، والمنفق من الحرام ليس بممدوح بالإجماع ؛ ولأن الحرام لا يملك ، فالمنفق منه فضولي في إنفاقه ، والفضولي مذموم ؛ ينتج أن المنفق من رزق الله ليس بمنفق من الحرام ، وينعكس كليا أو جزئيا : المنفق من الحرام ليس بمنفق من رزق الله عزوجل وهو يستلزم المطلوب.
ويمكن تقريره بأبين من هذا ؛ وهو أن المنفق من الحرام : إما ممدوح ، وهو خلاف الإجماع ، أو مذموم ؛ فهو غير منفق من رزق الله ـ عزوجل ـ إذ هذا ممدوح وذاك مذموم ؛ فهذا غير ذاك.
والجواب : أن المنفق من الحرام مذموم من جهة اكتساب الحرام ، ممدوح من جهة الإنفاق والبذل ، وحينئذ إن أردتم أنه ليس بممدوح من جهة كسب الحرام ، سلمناه ولكن لا ينتج قياسكم لعدم اتحاد الأوسط فيه ، وإن أردتم أنه ليس بممدوح من جهة الإنفاق ، منعنا ذلك ؛ فلا يتم دليلكم. وأما كونه فضوليا مذموما ، فإنما ذلك من جهة تصرفه في ملك الغير بالإنفاق ، لا من جهة نفس الإنفاق.