صلاحه بالعفو عنه. واستعذ بالله من سورة الغضب وظهور النفس بنخس الشيطان وهمزه إياها ومن حضوره وقربه ، أي : توجه إلى ربّك مستعيذا به قائلا : (رَبِّ أَعُوذُ بِكَ) منخرطا في سلك التوجه إلى جنابه بالقلب واللسان والأركان لائذا ببابه من تحريضات اللعين ودواعيه وحضوره ، فيصير مقهورا مرجوما مطرودا.
والموصوف بالسيئة الواصف لك بها ، الذاكر لك بالسوء ، إن بقي على حاله حتى إذا احتضر وشاهد أمارات العذاب وعاين وحشة هيئات السيئات تمنى الرجوع وأظهر الندامة ونذر العمل الصالح في الإيمان الذي ترك ولم يحصل إلا على الحسرة والندامة والتلفظ بألفاظ التحسر والندم ، والدعوة دون المنفعة والفائدة والإجابة (وَمِنْ وَرائِهِمْ) أي : أمام رجوعهم حائل من هيئات جرمانية ظلمانية مناسبة لهيئات سيئاتهم من الصور المعلقة ، مانعة من الرجوع إلى الحق وإلى الدنيا ، وهو البرزخ بين بحري النور والظلمة وعالم الأرواح المجرّدة والأجساد المركبة يتعذبون فيه بأشد أنواع العذاب ، وأفحش أصناف العقاب إلى وقت البعث في الصورة الكثيفة عند النفخ في الصور ووقوع القيامة وحشر الأجساد ، وحينئذ (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ) لاحتجاب بعضهم عن بعض بالهياكل المناسبة لأخلاقهم وأعمالهم وهيئاتهم الراسخة في نفوسهم المكتوبة عليهم ، فلا يتعارفون (وَلا يَتَساءَلُونَ) لشدّة ما بهم من الأهوال وذهولهم عما كان بينهم من الأحوال ، وتنقطع العلائق والوصل التي كانت بينهم لتفرّقهم بأنواع العذاب وأسباب الحجاب ، وتتغير صورهم وجلودهم وتتبدّل أشكالهم ووجوههم على حسب اقتضاء معايبهم وصفات نفوسهم ، وهو معنى قوله : (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ) وذلك غلبة الشقوة وسوء العاقبة الموجبة للخسء والطرد والبعد واللعن كخسء الكلاب.
[١١٢ ـ ١١٨] (قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (١١٥) فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١١٨))
(لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) قال ابن عباس : أنساهم ما كانوا فيه من العذاب بين النفختين : الاحتجاب في البرزخ المذكور ، فالصور المذكور أنساهم مدّة اللبث وإنما استقصروها لانقضائها وكل منقض فهو ليس بشيء ، ولهذا صدّقهم بقوله : (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) ومعنى : (لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) إنكم حسبتموها كثيرا فاغتررتم بها وفتنتم بلذاتها وشهواتها ، ولو علمتموها قليلا لتزودتم وتجرّدتم عن تعلقاتها.
(رَبِّ اغْفِرْ) هيئات المعلقات (وَارْحَمْ) بإفاضة الكمالات (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ)