إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٢٦) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧) فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٨))
(وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ) لما ذكر السابقين وعقبهم بذكر من يقابلهم من المطرودين الذين حقّ عليهم القول وبين أنّ الفريق الأول في عداد السعداء والفريق الثاني من جملة الأشقياء. تناول الكلام الأصناف السبعة المذكورة في أول الكتاب للتصريح بذكر الصنفين اللذين هما الأصل في الإيمان والكفر ، والتعريض بذكر الخمسة الباقية فقال : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) أي : ولكل صنف من أصناف الناس درجات من جزاء أعمالهم من أعلى عليين إلى أسفل سافلين ، وغلب الدرجات على الدركات بل لكل أحد من كل صنف رتبة ومقام وموقع قدم من إحدى الجنان أو طبقات النيران.
(أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا) أنكر عليهم إذهاب جميع الحظوظ في لذات الدنيا لأن لكل أحد بحسب استعداده الأول كمالا ونقصا يقابله ، وبحسب وقت تكوّنه في هذا العالم سعادة عاجلة وشقاوة تقابلها فله بحسب كل واحدة من النشأتين طيبات وحظوظ تناسب كلا كماليه ، فمن أقبل بوجهه على طيبات الدنيا وحظوظها والاستمتاع بها وأعرض بقلبه عن طيبات الأخرى ولذاتها حرم الثانية أصلا لانغماسه في الأمور الظلمانية واحتجابه عن المطالب النورانية ، كما قال تعالى : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) (١) ، وذلك معنى قوله : (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا) لأن حظوظ الأخروية التي تقتضيها هويته ذهبت في هذه ، فكأن ما زاد في النهار نقص من الليل. وأما من أقبل بوجهه إلى الأخرى وتنزّه عن هذه بالزهد والتقوى ورغب في المعارف الحقيقية والحقائق الإلهية واللذات العلوية والأنوار القدسية التي هي الطيبات بالحقيقة فقد أوتي منها حظه ولم ينقص من حظوظه العاجلة على قياس الأول بل وفر منها نصيبه كما قال : (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠)) (٢) وذلك لأن الاستغراق في عالم القدس والتوجه إلى جناب الحق يورث النفس قوة وقدرة تؤثر بها في عالم الحسّ ، فكيف إذا اتصلت بمنبع القوى والقدر؟ أما ترى أن عالم الملكوت مؤثر في عالم الملك
__________________
(١) سورة البقرة ، الآية : ٢٠٠.
(٢) سورة الشورى ، الآية : ٢٠.