(لَيْسُوا سَواءً مِنْ
أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ) أي : بالله ، ثم وصفهم بأحوال أهل الاستقامة ، أي منهم أهل
التوحيد والاستقامة (وَما يَفْعَلُوا مِنْ
خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) أي : كل ما يصدر منكم مما يقربكم عند الله يتصل به جزاؤه
ومنه لن تحرموا شيئا منه. قال الله تعالى : «من تقرب إليّ شبرا تقرّبت إليه ذراعا
، ومن تقرّب إليّ ذراعا تقرّبت إليه باعا ، ومن أتاني مشيا أتيته هرولة» ...
الحديث. وقال تعالى : «أنا جليس من ذكرني ، وأنيس من شكرني ، ومطيع من أطاعني» أي
: كما أطعتموه بتصفية الاستعداد والتوجه نحوه ، أطاعكم بإفاضة الفيض على حسبه
والإقبال إليكم (وَاللهُ عَلِيمٌ) بالذين اتّقوا ما يحجبهم عنه فيتجلى لهم بقدر زوال الحجاب.
[١١٧] (مَثَلُ ما
يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ
حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ
وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٧))
(مَثَلُ ما
يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا) الفانية ولذاتها السريعة الزوال ، طلبا للشهوات أو رياء
وسمعة في المفاخر ، وطلب محمدة الناس ، لا يطلبون به وجه الله ، وما تهلكه وتفنيه
بالكليّة من ريح هوى النفس التي فيها برّ دنياتكم الفاسدة وأغراضكم الباطلة
كالرياء ونحوه (كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها
صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالشرك والكفر (فَأَهْلَكَتْهُ) عقوبة من الله لظلمهم (وَما ظَلَمَهُمُ
اللهُ) بإهلاك حرثهم (وَلكِنْ) كانوا أنفسهم يظلمون لأنه مسبب عن ظلمهم ، كما قيل : مهلا
فيداك وكتا وفوك نفخ.
[١١٨] (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ
خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما
تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْقِلُونَ (١١٨))
(لا تَتَّخِذُوا
بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ) بطانة الرجل صفيه وخليصه الذي يبطنه ويطلع عليه أسراره ،
ولا يمكن وجود مثل هذا الصديق إلا إذا اتحدا في المقصد واتفقا في الدين والصفة ،
متحابين في الله لا لغرض كما قيل في الأصدقاء نفس واحدة في أبدان متفرّقة ، فإذا
كان من غير أهل الإيمان فبأن يكون كاشحا أحرى. ثم بيّن نفاقه واستبطانه العداوة
بقوله : (لا يَأْلُونَكُمْ
خَبالاً) إلى آخره ، إذ المحبة الحقيقية الخالصة لا تكون إلا بين
الموحدين ، لكونها ظلّ الوحدة فلا تكون بين المحجوبين لكونهم في عالم التضادّ
والظلمة. فأين الصفاء والوفاق في