وأما الجدال فيها لحل مشكلاتها ، وكشف حقائقها ، وتوضيح مناهج الحق منها ، وردّ مذاهب أهل الزيغ بها ، فمن أعظم الجهاد فى سبيل الله.
قال الطيبي : وأما اتصال قوله : (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ ...) الآية بما قبله ، فهو أنه لمّا قال تعالى : (حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ) من الإله المعبود ، الموصوف بصفات العلم الكامل ، والعز الغالب ، الجامع بين غفران الذنب وقبول التوبة ، المتفرد بالعقاب ، الذي لا يقدّر كنهه ، وبالإفضال الذي لا يبلغ قدره ، قال : (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ) أي : ما يجادل فى مثل هذا الكتاب ، المشتمل على الآيات البينات ، المنزل من مثل ذلك الموصوف بنعوت الكمال ، إلا أمثال هؤلاء الكفرة المغرورين ، (فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) فإنه استدراج ، فلا يغرر مثلك فى منصب الرّسالة تقلب أولئك تقلب الأنعام ، المنعّمين فى هذا الحطم. وآيات الله : مظهر أقيم مقام المضمر ؛ للتعظيم والتفخيم. ه.
والفاء لترتيب النّهى عن الاغترار على ما قبله من التسجيل عليهم بالكفر ، الذي لا شىء أمقت منه عند الله ، ولا أجلب لخسران الدنيا والآخرة ، فإنّ من تحقق ذلك لا يكاد يغتر بما لهم من الحظوظ الفانية ، والزخارف الدنيوية ، فإنهم مأخوذون عما قليل ، كما أخذ من قبلهم. ولذلك ذكرهم بقوله : (كَذَّبَتْ ...) إلخ.
الإشارة : «حم» أي : بحلمي ومجدى تجليت فى كلامى ، المنزل على حبى ، وهو تنزيل الكتاب من الله العزيز ، المعزّ لأوليائه ، العليم بما كان وما يكون منهم ، فلا يمنعه علمه عما سلف من قضائه. غافر الذنب لمن أصرّ واجترم ، وقابل التوب لمن تاب واحتشم ، شديد العقاب لمن جحد وكفر ، ذى الطول لمن توجه ووصل ، ويقال : غافر الذنب للغافلين ، وقابل التّوب للمتوجهين ، شديد العقاب للمنكرين ، ذى الطول للعارفين الواصلين. لا إله إلا هو ، فلا موجود معه ، إليه المصير بالسير فى ميادين النّفوس ، حتى يحصل الوصول إلى حضرة القدوس. ما يجادل فى آيات الله ، وهم أولياء الله ، الدالون على الله ، إلا أهل الكفر بوجود الخصوصية. قال القشيري : إذا ظهر البرهان ، واتّضح البيان استسلمت الألباب الصاحية للاستجابة والإيمان. وأمّا أهل الكفر فلهم على الجحود إصرار ، وشؤم شركهم يحول بينهم وبين الإنصاف ، وكذلك من لا يحترم أولياء الله ، يصّرّون على إنكارهم تخصيص الله عباده بالآيات ، ويعترضون عليهم بقلوبهم ، فيجادلون فى جحد الكرامات ، وسيفتضحون ، ولكنهم لا يميزون بين رجحانهم ونقصانهم. ه.
(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ