الذين أدركوا زمانك من يؤمن به. وإذا قلنا : إنّ السورة كلها مكية ، يكون إخبارا بغيب تحقق وقوعه ، (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا) ، مع ظهورها وزوال الشبهة عنها ، (إِلَّا الْكافِرُونَ) ؛ إلا المتوغلون فى الكفر ، المصممون عليه ، ككعب بن الأشرف وأضرابه ، أو كفار قريش ، إذا قلنا : الآية مكية.
(وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ) ؛ من قبل القرآن (مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) ، بل كنت أميا ، لم تقرأ ولم تكتب ، فظهور هذا الكتاب ، الجامع لأنواع العلوم الشريفة والأخبار السالفة ، على يد أمي ؛ لم يعرف بالقراءة والتعلم ، خرق عادة ، قاطعة لبغيته. وذكر اليمين ؛ لأن الكتابة ، غالبا ، تكون به ، أي : ما كنت قارئا كتابا من الكتب ، ولا كاتبا (إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) أي : لو كنت ممن يخط ويقرأ لقالوا : تعلمه ، والتقطه من كتب الأقدمين ، وكتبه بيده. أو : يقول أهل الكتاب : الذي نجده فى كتابنا أمي لا يكتب ولا يقرأ ، وليس به. وسماهم مبطلين ، لإنكارهم النبوة ، أو : لارتيابهم فيها ، مع تواتر حججها ودلائلها.
هذا ، وكونه صلىاللهعليهوسلم أميا كمال فى حقه صلىاللهعليهوسلم ، مع كونه أميا أحاط بعلوم الأولين والآخرين ، وأخبر بقصص القرون الخالية والأمم الماضية ، من غير مدارسة ولا مطالعة ، وهو ، مع ذلك ، يخبر بما مضى ، وبما يأتى إلى قيام الساعة ، وسرد علم الأولين والآخرين مما لا يعلم القصة الواحدة منها إلا الفاذ من أحبارهم ، الذي يقطع عمره فى مدارسته وتعلمه ، وهذا كله فى جاهلية جهلاء ، بعد فيها العهد بالأنبياء ، وبدّل الناس ، وغيّروا فى كتب الله تعالى ؛ بالزيادة والنقصان ، ففضحهم صلىاللهعليهوسلم وقرر الشرائع الماضية ، فهذا كله كاف فى صحة نبوته ، فكانت أميته صلىاللهعليهوسلم وصف كمال فى حقه ، ومعجزة دالة على نبوته ؛ لأنه صلىاللهعليهوسلم ، مع كونه أميا ، ظهر عليه من العلوم اللدنية ، والأسرار الربانية ، ما يعجز عنه العقول ، ولا تحيط به النقول ، مع إحكامه لسياسة الخلق ، ومعالجتهم ؛ مع تنوعهم ، وتدبير أمر الحروب ، وإمامته فى كل علم وحكمة.
وأيضا : المقصود من القراءة والكتابة : ما ينتج عنهما من العلم ؛ لأنهما آلة ، فإذا حصلت الثمرة استغنى عنهما. والمشهور أنه صلىاللهعليهوسلم لم يكتب قط. وقال الباجى وغيره : إنه كتب ، لظاهر حديث الحديبية. وقال مجاهد والشعبي : مامات النبي صلىاللهعليهوسلم حتى كتب وقرأ. وهذا كله ضعيف.
قال تعالى : (بَلْ هُوَ) أي : القرآن (آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أي : فى صدور العلماء وحفاظه ، وهما من خصائص القرآن ؛ كون آياته بينات الإعجاز ، وكونه محفوظا فى الصدور ، بخلاف سائر الكتب ، فإنها لم تكن معجزات ، ولم تكن تقرأ إلا بالمصاحف. قال ابن عباس : (بَلْ هُوَ) أي : محمد ، والعلم بأنه أمي ، (آياتٌ بَيِّناتٌ) ؛ فى صدور أهل العلم من أهل الكتاب ، يجدونه فى كتبهم. ه (١). و (بل) : للإضراب عن
__________________
(١) ذكر الطبري القولين (٢١ / ٥ ـ ٦) ورجح القول الثاني لأن قوله تعالى : (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ) بين خبرين من إخبار الله عن رسول الله سيدنا محمد صلىاللهعليهوسلم. فهو بأن يكون خبرا عنه أولى من أن يكون خبرا عن الكتاب.