قال : فالجواب عن ذلك إذا سلّمنا أنّ عيسى عليهالسلام بعث إليهم فإنّ الفترة إنّما كانت بينه وبين محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وأنّ الحواريين لم يمكثوا بعده إلّا قليلا ، وأنّ الآباء المذكورين بأنّهم لم ينذروا هم الأدنون دون الأبعدين.
ولقائل أن يقول : إن عيسى عليهالسلام لم يبعث إلّا إلى بني إسرائيل خاصة دون العرب ؛ وبذلك نطق القرآن. وله أن يقول : إنّ الآباء الأبعدين والأدنين في الآية سواء. والذى يؤيّد ذلك قوله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ) (١) ؛ الآية إلى آخرها ، وقد صحّ بالجملة والتفصيل أنّ الآباء لم ينذروا ، وأنّ «ما» للنفي في موضعها من الآية دون الإثبات ؛ فكيف القول في الحجّة عليهم؟ ولا يحتجّ محتج بأنّ العقل هو الحجّة عليهم دون الإنذار والرسل ؛ لأنّ العقل حجّة على من أنذر وعلى من لم ينذر ؛ وعليه معوّل الفلاسفة في الاستغناء عن الرسل والأنبياء عليهمالسلام.
قلنا : الجواب عن ذلك. أنّه غير ممتنع عندنا أن يخلو الزمان الطويل والقصير من رسول مبعوث بشريعة ؛ وإن كان لا يخلو من إمام ؛ ولهذا يقول أصحابنا ؛ إنّ الإمامة واجبة في كلّ زمان ؛ وليست كذلك النبوّة.
والوجه فيه أنّ إرسال الرسول تابع لما يعلمه الله من المصالح للمكلّفين في الشرائع والعبادات ؛ وغير بعيد في العقل أن يعلم تعالى أنّه لا شيء من الشرائع فيه مصلحة للمكلّفين ؛ فلا تجب الرّسالة بل لا تحسن. فأمّا قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) ، وقوله : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) وقوله : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ) ؛ فيجوز أن يكون مخصوصا غير عامّ ؛ ويعنى به من الشرائع والعبادات من ألطافه ؛ فإن دلّ دليل قاطع على عموم هذه الظواهر قطعنا لأجله على أنّ الشرائع من ألطاف المكلّفين ؛ وإن كان جائزا في العقل ألّا يكون الأمر على ذلك.
__________________
(١) سورة المائدة ، الآية : ١٩.