وفي هذه الأخبار التي أشرنا إليها أنّ بعض هذه الأجناس يعتقد الحقّ ويدين به ، وبعضها يخالفه ؛ وهذا كلّه مناف لظاهر ما العقلاء عليه.
ومنها ما يشهد أنّ لهذه الأجناس منطقا مفهوما ، وألفاظا تفيد أغراضا ، وأنّها بمنزلة الأعجميّ والعربيّ اللذين لا يفهم أحدهما صاحبه ، وأنّ شاهد ذلك من قول الله سبحانه فيما حكاه عن سليمان عليهالسلام : (يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) (١). وكلام النملة أيضا ممّا حكاه سبحانه ، وكلام الهدهد واحتجاجه وجوابه وفهمه.
والجواب : [قلنا :] وبالله التوفيق :
إعلم أنّ المعوّل فيما يعتقد على ما تدلّ الأدلّة عليه من نفي وإثبات ؛ فإذا دلّت الأدلة على أمر من الأمور وجب أن نبني كلّ وارد من الأخبار إذا كان ظاهره بخلافه عليه ؛ ونسوقه إليه ، ونطابق بينه وبينه ، ونجلّي ظاهرا إن كان له ، ونشرط إن كان مطلقا ، ونخصّه إن كان عامّا ، ونفصّله إن كان مجملا ؛ ونوفّق بينه وبين الأدلّة من كل طريق اقتضى الموافقة وآل إلى المطابقة ؛ وإذا كنّا نفعل ذلك ولا نحتشمه في ظواهر القرآن المقطوع على صحّته ، المعلوم وروده ؛ فكيف نتوقّف عن ذلك في أخبار آحاد لا توجب علما ؛ ولا تثمر يقينا! فمتى وردت عليك أخبار فأعرضها على هذه الجملة وابنها عليها ؛ وافعل فيها ما حكمت به الأدلّة ، وأوجبته الحجج العقلية ؛ وإن تعذّر فيها بناء وتأويل وتخريج وتنزيل ؛ فليس غير الإطراح لها ، وترك التعريج عليها ؛ ولو اقتصرنا على هذه الجملة لاكتفينا فيمن يتدبّر ويتفكّر.
وقد يجوز أن يكون المراد بذمّ هذه الأجناس من الطير أنّها ناطقة بضد الثناء على الله وبذمّ أوليائه ، ونقص أصفيائه معناه ذمّ متّخذيها ومرتبطيها ، وأنّ هؤلاء المغرين بمحبّة هذه الأجناس واتّخاذها هم الذين ينطقون بضدّ الثناء على الله ، ويذمّون أولياءه وأحبّاءه ؛ فأضاف النطق إلى هذه الأجناس ، وهو لمتّخذيها أو
__________________
(١) سورة النمل ، الآية : ١٦.