بأن يقال : أم تمنعهم آلهتهم .. إلخ ، من الدلالة على سقوطها عن مرتبة الوجود ، فضلا عن رتبة المنع ، مالا يخفى. ثم قال تعالى : (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ) أي : يجارون. والصاحب : المجير الوافي ، يعنى : أن الأصنام لا تجير نفسها ، ولا نجيرهم نحن ، أو لا يصحبهم نصر من جهتنا ، فهم لا يستطيعون أن ينصروا أنفسهم ، ولا يصحبون بالنصر والتأييد من جهتنا ، فكيف يتوهم أن ينصروا غيرهم؟.
(بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) ، إضراب عما توهموه من منع آلهتهم وحفظها لهم ، أي : ما هم فيه من الحفظ والكلاءة إنما هو منا ، لا من مانع يمنعهم من إهلاكنا ، وما كلأناهم وآباءهم الماضين إلا تمتيعا لهم بالحياة الدنيا وإمهالا ، كما متعنا غيرهم من الكفار وأمهلناهم حتى طال عليهم الأمد فقست قلوبهم ، وظنوا أنهم دائمون على ذلك ، وهو أمل كاذب. (أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) أي : ألا ينظرون فيرون أنّا نأتى أرض الكفرة فننقصها من أطرافها ؛ بإدخالها فى أيدى المسلمين ، فكيف يتوهمون أنهم ناجون من بأسنا. وهو تمثيل وتصوير لما يخربه الله من ديارهم على أيدى المسلمين ، ويضيفها إلى دار الإسلام. وفى التعبير بنأتى : إشارة إلى أن الله تعالى يجريه على أيدى المسلمين ، وأن عساكرهم كانت تأتيهم لغزوهم غالبة عليهم ، ناقصة من أطراف أرضهم. (أَفَهُمُ الْغالِبُونَ) على رسول الله صلىاللهعليهوسلم والمؤمنين ، أي : أفكفار مكة يغلبون بعد أن نقصنا من أطراف أرضهم؟ أي : ليس كذلك ، بل يغلبهم الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ وأصحابه الكرام ، وقد تحقق ذلك وأنجز الله وعده ، والله غالب على أمره.
الإشارة : قل من يكلؤ قلوبكم وأسراركم من الرحمن ، أن يذهب بما أودع فيها من المعارف وأنوار الإحسان؟ فلا أحد يحفظها إلا من رحمها بما أودع فيها ، ولهذا كان العارفون لا يزول اضطرارهم ، ولا يكون مع غير الله قرارهم ، لا يعتمدون على عمل ولا حال ، ولا على علم ولا مقال ، وفى الحكم : «إلهى ، حكمك النافذ ، ومشيئتك القاهرة ، لم يتركا لذى حال حالا ، ولا لذى مقال مقالا». وقال أيضا : «إلهى كم من طاعة بنيتها وحالة شيدتها ، هدم اعتمادي عليها عدلك ، بل أقالنى منها فضلك». وكثير من الناس غافلون عن هذا المعنى ، بل هم عن ذكر ربهم معرضون.
قال الورتجبي : قوله تعالى : (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ ...) الآية ، أخبر عن كمال إحاطته بكل مخلوق ، وتنزيهه عن العجلة بمؤاخذتهم ، كأنه يقول : أنا بذاتى تعاليت ، أدفع بلطفي القديم عنكم قهرى القديم ، ولو لا فضلى السابق وعنايتى القديمة بالرحمة عليكم ، من يدفعه بالعلة الحدثانية؟ وهذا من كمال لطفى عليكم ، وأنتم بعد معرضون عنى يا أهل الجفا ، وذلك قوله : (بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ). ه بلفظه مع تصحيف فى النسخة.