وقد تقدم أن من لاحساب عليهم ـ وهم المقربون ـ يمرون على الصراط ولا يحسون به ، وهم الذين يمرون عليه كالطير أو كالبرق ، جعلنا الله منهم بمنّه وكرمه ، وبجاه خير الخلق مولانا محمد نبيه وحبه ، آمين.
ثم ذكر أحوال من سقط فى جهنم ويبقى فيها جثيّا ، فقال :
(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (٧٣) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (٧٤))
قلت : «هم أحسن» : صفة لكم.
يقول الحق جل جلاله : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ) ؛ على الكفرة (آياتُنا) الناعية عليهم فظاعة حالهم ووخامة مآلهم ، والناطقة بحسن عاقبة المؤمنين ، حال كونها (بَيِّناتٍ) : واضحات فى نفسها ، أو بينات الإعجاز ، أو بينات المعاني ، (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : قالوا ، ووضع الموصول موضع الضمير ؛ للتنبيه على أنهم قالوا ما قالوا كافرين بما يتلى عليهم رادين له ، أو : قال الذين تمرّدوا فى الكفر والعتو ؛ وهم النضر بن الحارث وأتباعه ، قالوا (لِلَّذِينَ آمَنُوا) ، اللام للتبليغ ، أي : قالوا مبلغين الكلام لهم ، وقيل : لام الأجل ، كقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) (١) أي : لأجلهم وفى حقهم ، والأول أولى ؛ لأن الكلام هنا كان معهم بدليل قوله : (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ) أي : المؤمنين والكفار ، (خَيْرٌ) كأنهم قالوا : أينا (خَيْرٌ مَقاماً) أي : مكانا : نحن أو أنتم ، وقرىء بالضم ، أي : موضع إقامة ومنزل ، (وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) ؛ مجلسا ومجتمعا ، أو : أينا خير منزلا ومسكنا ، وأحسن مجلسا؟.
يروى أنهم كانوا يرجلون شعورهم ويدهنونها ، ويتزينون بالزينة الفاخرة ، ثم يقولون ذلك لفقراء المؤمنين ، يريدون بذلك أن خيريتهم ، حالا ، وأحسنيتهم ، مقالا ، مما لا يقبل الإنكار ، وأنّ ذلك لكرامتهم على الله سبحانه وزلفاهم عنده ، وأنّ الحال التي عليها المؤمنون ، من الضرورة والفاقة ورثاثة الحال ؛ لقصور حظهم عند الله. وما هذا القياس العقيم والرأى السقيم إلا لكونهم جهلة لا يعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا ، وذلك مبلغهم من العلم ، فردّ عليهم بقوله : (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً) : مالا ومتاعا (وَرِءْياً) ؛ منظرا ، أي : كثيرا من القرون التي كانوا أفضل منهم ، فيما يفتخرون به من الحظوظ الدنيوية ، كعاد وثمود وأضرابهم العاتية قبل هؤلاء ،
__________________
(١) الآية ١١ من سورة الأحقاف.