وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) ، فمن أين لك هذا الولد من غير زوج؟. هذا تقرير لكون ما جاءت به فريا منكرا ، أو تنبيه على أن ارتكاب الفواحش من أولاد الصالحين أفحش الفواحش.
(فَأَشارَتْ إِلَيْهِ) أي : إلى عيسى أن كلموه ، ولم تكلمهم وفاء بنذرها ، وإشارتها إليه من باب الإدلال ، رجوعا لقوله لها : (وَقَرِّي عَيْناً) ، ولا تقر عينها إلا بالوفاء بما وعدت به ؛ من العناية بأمرها والكفاية لشأنها ، وذلك يقتضى انفرادها بالله وغناها به ، فتدل بالإشارة. وكان ذلك طوع يدها ، وتذكّر قضية جريج. قاله فى الحاشية. (قالُوا) منكرين لجوابها : (كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) ، ولم يعهد فيما سلف صبى يكلمه عاقل. و (كانَ) هنا : تامة. و (صَبِيًّا) : حال. وقيل : زائدة ، أي : من هو فى المهد.
(قالَ) عيسى عليهالسلام : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ) ، أنطقه الله تعالى بذلك ، تحقيقا للحق ، وردا على من يزعم ربوبيته. قيل كان المستنطق لعيسى زكريا ـ عليهماالسلام ـ وعن السدى : (لما أشارت إليه ، غضبوا ، وقالوا : لسخريتها بنا أشدّ علينا مما فعلت). روى أنه عليهالسلام كان يرضع ، فلما سمع ذلك ترك الرضاع ، وأقبل عليهم بوجهه ، واتكأ على يساره ، وأشار بسبابته ، فقال ما قال. وقيل : كلمهم بذلك ، ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغا يتكلم فيه الصبيان.
ثم قال فى كلامه : (آتانِيَ الْكِتابَ) : الإنجيل : (وَجَعَلَنِي) مع ذلك (نَبِيًّا) ، (وَجَعَلَنِي مُبارَكاً) : نفّاعا للناس ، معلما للخير (أَيْنَ ما كُنْتُ) أي : حيثما كنت ، (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ) : أمرنى بها أمرا مؤكدا ، (وَالزَّكاةِ) ؛ زكاة الأموال ، أو بتطهير النفس من الرذائل (ما دُمْتُ حَيًّا) فى الدنيا. (وَ) جعلنى (بَرًّا بِوالِدَتِي) فهو عطف على (مُبارَكاً). وقرئ بالكسر ، على أنه مصدر وصف به مبالغة ، وعبّر بالفعل الماضي فى الأفعال الثلاثة ؛ إما باعتبار ما سبق فى القضاء المحتوم ، أو بجعل ما سيقع واقعا لتحققه. ثم قال : (وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا) عند الله تعالى ، بل متواضعا لينا ، سعيدا مقربا ، فكان يقول : سلونى ، فإن قلبى لين ، وإنى فى نفسى صغير ، لما أعطاه الله من التواضع.
ثم قال : (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) ، كما تقدم على يحيى. وفيه تعريض بمن خالفه ، فإن إثبات جنس السلام لنفسه تعريض بإثبات ضده لأضداده ، كما فى قوله تعالى : (وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) (١) ؛ فإنه تعريض بأن العذاب على من كذّب وتولى.
فهذا آخر كلام عيسى عليهالسلام ، وهو أحد من تكلم فى المهد ، وقد تقدم ذكرهم فى سورة يوسف نظما ونثرا. وكلهم معروفون ، غير أن ماشطة ابنة فرعون لم تشتهر حكايتها. وسأذكرها كما ذكرها الثعلبي. قال : قال ابن عباس : (لما أسرى بالنبي صلىاللهعليهوسلم مرت به ريح طيبة فقال : يا جبريل ما هذه الرائحة؟ قال : رائحة ماشطة بنت فرعون ، كانت
__________________
(١) الآية ٤٧ من سورة طه.