(وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) أي : ابيضّ شمطا. شبه عليهالسلام الشيب من جهة البياض والإنارة بشواظ النار ، وانتشاره فى الشعر وفشوّه فيه وأخذه منه كل مأخذ باشتعالها ، ثم أخرجه مخرج الاستعارة ، ثم أسند الاشتعال إلى محل الشعر ومنبته وهو الرأس ، وأخرجه مخرج التمييز ، ففيه من فنون البلاغة وكمال الجزالة ما لا يخفى ، حيث كان الأصل : واشتعل شيب رأسى ، فأسند الاشتعال إلى الرأس ؛ لإفادة شموله لكلها ، فإن وزانه : اشتعل بيته نارا بالنسبة إلى اشتعلت النار فى بيته ، ولزيادة تقريره بالإجمال أولا ، والتفصيل ثانيا ، ولمزيد تفخيمه بالتكثير من جهة التنكير.
ثم قال : (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) أي : لم أكن بدعائى إياك خائبا فى وقت من أوقات هذا العمر الطويل ، بل كنت كلما دعوتك استجبت لى. توسل إلى الله بسابق حسن عوائده فيه ، لعله يشفع له ذلك بمثله ، إثر تمهيد ما يستدعى ويستجلب الرأفة من كبر السن وضعف الحال. والتعرض فى الموضعين لوصف الربوبية لتحريك سلسلة الإجابة بالمبالغة فى التضرع ، ولذلك قيل : من أراد أن يستجاب له فليدع الله بما يناسبه من أسمائه وصفاته.
ثم قال : (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ) أي : الأقارب ، وهم : بنو عمه ، وكانوا أشرار بنى إسرائيل ، فخاف ألا يحسنوا خلافته فى أمته ، فسأل الله تعالى ولدا صالحا يأمنه على أمته. وقوله : (مِنْ وَرائِي) : متعلق بمحذوف ، أي : جور الموالي ، أو مما فى الموالي من معنى الولاية ، أي : خفت أن يلوا الأمر من ورائي ، (وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) : لا تلد من حين شبابها ، (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ) أي : أعطنى من محض فضلك الواسع ، وقدرتك الباهرة ، بطريق الاختراع ، لا بواسطة الأسباب العادية ؛ لأن التعبير بلدنّ يدل على شدة الاتصال والالتصاق ، (وَلِيًّا) : ولدا من صلبى ، يليى الأمر من بعدي.
والفاء : لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، فإن ما ذكره عليهالسلام من كبر السن وعقر المرأة موجب لانقطاع رجائه عن الولد بتوسط الأسباب ، فاستوهبه على الوجه الخارق للعادة ، ولا يقدح فى ذلك أن يكون هناك داع آخر إلى الإقبال على الدعاء المذكور ، من مشاهدته للخوارق الظاهرة عند مريم ، كما يعرب عنه قوله تعالى : (هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ) (١). وعدم ذكره هنا اكتفاء بما تقدم ، فإن الاكتفاء بما ذكر فى موطن عما ترك فى موطن آخر من النكتة التنزيلية. وقوله : (يَرِثُنِي) : صفة لوليّا ، وقرئ بالجزم هو وما عطف عليه جوابا للدعاء ، أي : يرثنى من حيث العلم والدين والنبوة ، فإن الأنبياء ـ عليهمالسلام ـ لا يورثون من جهة المال. قال : صلىاللهعليهوسلم «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» (٢). وقيل : يرثنى فى الحبورة ، وكان عليهالسلام حبرا.
__________________
(١) من الآية ٣٨ من سورة آل عمران.
(٢) أخرجه الإمام أحمد فى المسند (٢ / ٤٦٣).