وعن قومك (نُوحِيهِ إِلَيْكَ) أي نلقيه عليك معجزة وتذكيرا وتبصرة وموعظة وعبرة ، ووجه الإعجاز فيه إن ما غاب عن الإنسان يمكن أن يحصل علمه بدراسة الكتب أو التعلّم أو الوحي ، والنبي (ص) لم يشاهد هذه القصص ، ولا قرأها من الكتب ، ولا تعلمها إذ كان نشوءه بين أهل مكة ولم يكونوا أهل كتاب ، فوضح أن الله أوحى إليه بها ، وفي ذلك صحة نبوته (وَما كُنْتَ) يا محمد (لَدَيْهِمْ) عندهم (إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ) التي كانوا يكتبون بها التوراة في الماء للإقتراع ، جعلوا عليها علامات يعرفون بها من يكفل مريم على جهة القرعة (أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) أي لينظروا أيّهم تظهر قرعته ليكفل مريم (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) فيه دلالة على أنهم قد بلغوا في التشاح عليها إلى حد الخصومة.
٤٥ ـ (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ) قال ابن عباس : يريد جبرائيل (يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ) يخبرك بما يسرّك (بِكَلِمَةٍ مِنْهُ) سمي بذلك لأنه كان بكلمة من الله من غير والد وهو قوله : (كُنْ فَيَكُونُ) (اسْمُهُ الْمَسِيحُ) سمي بالمسيح لأنه كان لا يمسح ذاعاهة بيده الابرىء (عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) نسبه إلى أمه ردا على النصارى قولهم إنه ابن الله (وَجِيهاً) ذا جاه وقدر وشرف (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) إلى ثواب الله وكرامته (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ) أي صغيرا ، والمهد : الموضع الذي يمهد لنوم الصبي (وَكَهْلاً) أي ويكلمهم كهلا بالوحي الذي يأتيه من الله ، أعلمها الله تعالى أنه يبقى إلى حال الكهولة ، وفي ذلك إعجاز لكون المخبر على وفق الخبر (وَمِنَ الصَّالِحِينَ) أي ومن النبيين مثل إبراهيم وموسى.
٤٧ ـ (قالَتْ) مريم يا (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ) أي كيف يكون (لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) لم تقل ذلك إستبعادا وإستنكارا ، بل إنما قالت إستفهاما واستعظاما لقدرة الله ، لأن في طبع البشر التعجب مما خرج عن المعتاد (قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ) ، وهو حكاية ما قال لها الملك ، أي يرزقك الولد وأنت على هذه الحالة لم يمسك بشر (إِذا قَضى أَمْراً) إذا قدّر أمرا (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) إنه اخبار بسرعة حصول مراد الله في كل شيء أراد حصوله من غير مهلة ولا معاناة ، ولا تكلف سبب ولا أداة ، وإنما كنّى بهذا اللفظ لأنه لا يدخل في وهم العباد شيء أسرع من كن فيكون.
٤٨ ـ ٤٩ ـ (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ) أراد به بعض الكتب التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه (وَالْحِكْمَةَ) أي الفقه وعلم الحلال والحرام وقيل : أراد بذلك جميع ما علّمه من أصول الدين (وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) إن قيل لم أفردهما بالذكر مع دخولهما في الحكمة قيل : تنبيها عن جلالة موقعهما ، كقوله : (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) (وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ) أي قال لهم وكلّمهم لما بعث إليهم : بأني قد جئتكم (بِآيَةٍ) أي بدلالة وحجة (مِنْ رَبِّكُمْ) دالة على نبوتي (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) معناه : وهذه الآية : أني أقدّر لكم وأصوّر لكم من الطين مثل صورة الطير (فَأَنْفُخُ فِيهِ) أي في الطير المقدر من الطين (فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ) بأمر الله تعالى (وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ) أي الذي ولد أعمى (وَالْأَبْرَصَ) الذي به وضح (وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ) إنما أضاف الإحياء إلى نفسه على وجه المجاز والتوسع ، ولأن الله تعالى كان يحيي الموتى عند دعائه ، وإنما خص عيسى (ع) بهذه المعجزات لأن الغالب كان في زمانه الطب ، فأراهم الله الآيات من جنس ما هم عليه لتكون المعجزة أظهر ، كما ان الغالب لما كان في زمن موسى السحر أتاهم من جنس ذلك بما أعجزهم عن الإتيان بمثله ، وكان الغالب في زمان نبينا (ص) البيان والبلاغة والفصاحة فأراهم الله تعالى المعجزة بالقرآن الذي بهرهم ما فيه من عجائب النظم ، وغرائب البيان ، ليكون أبلغ في باب الإعجاز بأن يأتي كلا من أمم