بالحق الذي أتاهم به محمد (ص) من القرآن وسائر أمور الدين (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ) أي أخبار (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) والمعنى : أخبار استهزائهم وجزاؤه وهو عقاب الآخرة.
٦ ـ ثم حذّرهم سبحانه ما نزل بالأمم قبلهم فقال : (أَلَمْ يَرَوْا) أي ألم يعلم هؤلاء الكفار (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) أي من أمة ، وكل طبقة مقترنين في وقت قرن (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) معناه : جعلناهم ملوكا وأغنياء وقال ابن عباس : أعطيناهم ما لم نعطكم من كثرة العبيد والأموال والولاية والبسطة وطول العمر ، ونفاذ الأمر وأنتم تسمعون أخبارهم ، وترون ديارهم وآثارهم (وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً) قال ابن عباس : يريد به الغيث والبركة (وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ) أي ماء الأنهار (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) ولم يغن ذلك عنهم شيئا لما طغوا واجترأوا علينا (وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) أي خلقنا من بعد هلاكهم جماعة أخرى.
٧ ـ ثم أخبر سبحانه عن عنادهم فقال : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ) يا محمد (كِتاباً فِي قِرْطاسٍ) أي كتابة في صحيفة (فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) أي فعاينوا ذلك معاينة ، ومسوه بأيديهم (لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أخبر سبحانه أنهم يدفعون الدليل حتى لو أتاهم الدليل مدركا بالحس لنسبوا ذلك إلى السحر لعظم عنادهم ، وقساوة قلوبهم.
٨ ـ ١٠ ـ ثم أخبر سبحانه عن هؤلاء الكفار أنهم قالوا (لَوْ لا) وقالوا أي هلا (أُنْزِلَ عَلَيْهِ) أي على محمد (مَلَكٌ) نشاهده فنصدقه ، ثم أخبر تعالى عن عظم عنادهم فقال : (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً) على ما اقترحوه لما آمنوا به ، واقتضت الحكمة استئصالهم وأن لا ينظرهم ولا يمهلهم ، وذلك قوله : (لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) أي لأهلكوا بعذاب الاستئصال ، ثم قال تعالى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً) أي لو جعلنا الرسول ملكا (لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) لأنهم لا يستطيعون أن يروا الملك في صورته ، لأن أعين الخلق تحار عن رؤية الملائكة إلّا بعد التجسم بالاجسام الكثيفة ، ولذلك كانت الملائكة تأتي الأنبياء في صورة الإنس وكان جبرائيل يأتي النبي (ص) في صورة دحية الكلبي (وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) قال الزجاج : كانوا هم يلبسون على ضعفتهم في أمر النبي فيقولون : إنما هذا بشر مثلكم فقال : (لَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً) فرأوا هم الملك رجلا لكان يلحقهم فيه من اللبس مثل ما لحق ضعفتهم منهم وهذا احتجاج عليهم بأن الذي طلبوه لا يزيدهم بيانا بل يكون الأمر في ذلك على ما هم عليه من الحيرة ، ثم قال سبحانه على سبيل التسلية لنبيه من تكذيب المشركين إياه ، واستهزائهم به (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) يقول : لقد استهزأت الأمم الماضية برسلها كما استهزأ بك قومك ، فلست بأول رسول يستهزأ به ، ولا هم أول أمة استهزأت برسولها (فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ) أي فحل بالساخرين منهم (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) من وعيد أنبيائهم بعاجل العقاب في الدنيا.
١١ ـ ١٣ ـ ثم خاطب سبحانه نبيه (ص) فقال : (قُلْ) يا محمد لهؤلاء الكفار (سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي سافروا فيها (ثُمَّ انْظُرُوا) والنظر طلب الإدراك بالبصر وبالفكر وبالاستدلال ، ومعناه هنا : فانظروا بأبصاركم ، وتفكروا بقلوبكم (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) المستهزئين. وإنما أمرهم بذلك لأن ديار المكذبين من الأمم السالفة كانت باقية ، وأخبارهم في الخسف والهلاك كانت شائعة ، فإذا سار هؤلاء في الأرض ، وسمعوا أخبارهم ، وعاينوا آثارهم ، دعاهم ذلك إلى الإيمان ، وزجرهم عن الكفر والطغيان ثم قال (قُلْ) يا محمد لهؤلاء الكفار (لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الله الذي خلقهما أم الأصنام؟ فإن أجابوك فقالوا : لله وإلا (قُلْ)