وقال الشاعر :
ولي ألف وجه قد عرفت مكانه |
|
ولكن بلا قلب إلى أين أذهب! |
وهذا الوجه يقرب من الأوّل ؛ لأنّه تعالى أخرج هذا الكلام مخرج الإنذار لهم ، والحثّ لهم على الطاعات قبل فوتها ، لأنّه لا فرق بين تعذّر التوبة وانقطاع التكليف بالموت وبين تعذّرها بإزالة العقل.
وثالثها : أن يكون المعنى المبالغة في الإخبار عن قربه من عباده وعلمه بما يبطنون ويخفون ؛ وأنّ الضمائر المكتومة له ظاهرة ، والخفايا المستورة لعلمه بادية ؛ ويجري ذلك مجرى قوله تعالى : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (١) ونحن نعلم أنّه تعالى لم يرد قرب المسافة ، بل المعنى الذي ذكرناه.
وإذا كان عزوجل هو أعلم بما في قلوبنا منّا ، وكان ما نعلمه أيضا يجوز أن ننساه ، ونسهو عنه ، ونضلّ عن علمه ـ وكلّ ذلك لا يجوز عليه ـ جاز أن يقول : إنّه يحول بيننا وبين قلوبنا ؛ لأنّه معلوم في الشاهد أنّ كلّ شيء يحول بين شيئين فهو أقرب إليهما.
ولمّا أراد تعالى المبالغة في وصف القرب خاطبنا بما نعرف ونألف ؛ وإن كان القرب الذي عناه جلّت عظمته لم يرد به المسافة ، والعرب تضع كثيرا لفظة القرب على غير معنى المسافة ؛ فيقولون : فلان أقرب إلى قلبي من فلان ، وزيد منّي قريب ، وعمرو منّي بعيد ؛ ولا يريدون قرب المسافة.
ورابعها : ـ ما أجاب به بعضهم ـ من أنّ المؤمنين كانوا يفكّرون في كثرة عدوّهم ، وقلة عددهم ، فيدخل قولهم الخوف ، فأعلمهم تعالى أنّه يحول بين المرء وقلبه ، بأن يبدّله بالخوف الأمن ؛ ويبدّل عدوّهم ـ بظنهم أنّهم قادرون عليهم وغالبون لهم ـ الجبن والخور.
ويمكن في الآية وجه خامس : وهو أن يكون المراد أنّه تعالى يحول بين المرء وبين ما يدعوه إليه قلبه من القبائح ؛ بالأمر والنهي والوعد والوعيد ؛ لأنّا
__________________
(١) سورة ق ، الآية : ١٦.