وفيه وجه آخر : وهو أنّه تعالى أراد بهذا القول تعريف عيسى عليهالسلام أنّ قوما قد اعتقدوا فيه وفي أمّه أنّهما إلهان ؛ لأنّه ممكن أن يكون عيسى عليهالسلام لم يعرف ذلك إلّا في تلك الحال. ونظيره في التعارف أن يرسل الرجل رسولا إلى قوم فيبلّغ الرسول رسالته ويفارق القوم فيخالفونه بعده ويبدّلون ما أتى به وهو لا يعلم ، ويعلم المرسل له ذلك ، فإذا أحبّ أن يعلمه مخالفة القوم له جاز أن يقول له : «أأنت أمرتهم بكذا وكذا» ، على سبيل الإخبار له بما صنعوا (١).
[الثاني : إن سأل سائل] فقال : ما المراد بالنفس في هذه الآية؟ وهل المعنى فيها كالمعنى في قوله : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) (٢) أو يخالفه؟ هل يطابق معنى الآيتين والمراد بالنفس فيهما ما رواه أبو هريرة عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه قال : يقول الله تعالى : «إذا أحبّ العبد لقائي أحببت لقاءه ، وإذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه ، وإذا تقرّب إليّ شبرا تقرّبت إليه ذراعا ، وإذا تقرّب إليّ ذراعا تقربت إليه باعا» ، أو لا يطابقه؟
الجواب : قلنا : النفس في اللغة لها معان مختلفة ، ووجوه في التصرّف متباينة ؛ فالنفس نفس الإنسان وغيره من الحيوان ، وهي التي إذا فقدها خرج عن كونه حيّا ، ومنه قوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) (٣).
والنّفس ذات الشيء الذي يخبر عنه كقولهم : فعل ذلك فلان نفسه ؛ إذا تولّى فعله.
والنفس : الأنفة ، من قولهم ليس لفلان نفس ، أي لا أنفة له.
والنفس الإرادة ، من قولهم نفس فلان في كذا ، أي إرادته ؛ قال الشاعر :
فنفساي نفس قالت أيت ابن بحدل |
|
تجد فرجا من كلّ غمّى (٤) تهابها (٥) |
__________________
(١) تنزيه الأنبياء والأئمّة : ١٤٥.
(٢) سورة آل عمران ، الآية : ٢٨.
(٣) سورة آل عمران ، الآية : ١٨٥.
(٤) في التنزيه «من كلّ غمّ».
(٥) جمهرة الأشعار : ٣٥٣ ، واللسان (زلل) ، والمزلة : موضع الزلل والانزلاق.