وثالثها : ـ وهو جواب أبي عبيدة معمّر بن المثنّى ـ أنّ المعنى ليس البرّ بأن تطلبوا الخير من غير أهله ، وتلتمسوه من غير بابه (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها)، معناه : واطلبوا الخير من وجهه ، ومن عند أهله.
ورابعها : ـ وهو جواب أبي عليّ الجبّائيّ ـ أن تكون الفائدة في هذا الكلام ضرب المثل ، وأراد : ليس البرّ أن يأتي الرجل الشيء من خلاف جهته ؛ لأنّ إتيانه من خلاف جهته يخرج الفعل عن حدّ الصواب والبرّ إلى الإثم والخطأ ، وبيّن البرّ والتقوى ، وأمر بإتيان الأمور من وجوهها ، وأن تفعل على الوجوه التي لها وجبت وحسنت ، وجعل تعالى ذكر البيوت وظهورها وأبوابها مثلا ؛ لأنّ العادل في الأمر عن وجهه كالعادل في البيت عن بابه.
وخامسها : أن تكون البيوت كناية عن النساء ، ويكون المعنى : وأتوا النساء من حيث أمركم الله ، والعرب تسمّي المرأة بيتا ؛ قال الشاعر :
ما لي إذا أنزعها صأيت |
|
أكبر غيّرني أم بيت (١) |
أراد بالبيت : المرأة.
وممّا يمكن أن يكون شاهدا للجواب الذي حكيناه عن أبي عليّ الجبائيّ ، والجواب عن أبي عبيدة أيضا ما أخبرنا به أبو القاسم عبيد الله بن يحيى قال : أخبرنا أبو عبد الله محمّد بن أحمد الحكيميّ قال : أملى علينا أبو العباس أحمد بن يحيى النحويّ قال : أنشدنا ابن الأعرابي (٢) :
إنّي عجبت لأمّ العمر إذ هزئت |
|
من شيب رأسي وما بالشّيب من عار |
ما شقوة المرء بالإقتار يقتره |
|
ولا سعادته يوما بإكثار |
إنّ الشّقيّ الذي في النّار منزله |
|
والفوز فوز الذي ينجو من النّار |
__________________
(١) البيتان في اللسان (صأى) وفي حاشية بعض النسخ : «هذا مستق يستقى الماء من البئر وينزع الدلو». والهاء في قوله : «أنزعها» راجعة إلى الدلو ؛ وقيل الضمير للقوس ؛ يقال : «صأى يصأى ، مثل صعى يصعى ؛ إذا صوت».
(٢) أبيات منها في الكامل : ٢ / ٥١ ـ ٥٢ ؛ بشرح المرصفي ؛ عن ابن الأعرابيّ ، ونسبها إلى أحد ابني حبناء ، قال : «وأحسبه صخرا».