ثم تنزل لبيان العبودية ، فقال :
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥))
قلت : (إياك) مفعول (نعبد) ، وقدّم للتعظيم والاهتمام به ، والدلالة على الحصر ، ولذلك قال ابن عباس : (نعبدك ولا نعبد معك غيرك) ، ولتقديم ما هو مقدّم فى الوجود وهو الملك المعبود ، وللتنبيه على أن العابد ينبغى أن يكون نظره إلى المعبود أولا وبالذات ، ومنه إلى العبادة ، لا من حيث إنها عبادة صدرت عنه ، بل من حيث إنها نسبة شريفة إليه ، ووصلة بينه وبين الحق ، فإن العارف إنما يحقّ وصوله إذا استغرق فى ملاحظة جناب القدس ، وغاب عما عداه ، حتى إنه لا يلاحظ نفسه ولا حالا من أحوالها إلا من حيث إنها تجلّ من تجلياته ومظهر لربوبيته ، ولذلك فضل ما حكى الله عن حبيبه حين قال : (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) ، على ما حكاه عن كليمه حيث قال : (إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) أي : حيث صرّح بمطلوبه ، و (إياك) مفعول (نستعين) وقدّم أيضا للاختصاص والاهتمام ، كما تقدم فى (إِيَّاكَ نَعْبُدُ). وكرّر الضمير ولم يقل : إياك نعبد ونستعين ؛ لأن إظهاره أبلغ فى إظهار الاعتماد على الله ، وأقطع فى إحضار التعلق بالله والإقبال على الله وأمدح ، ألا ترى أن قولك : بك أنتصر وبك أحتمى وبك أنال مطالبى ـ أبلغ وأمدح من قولك : بك أنتصر وأحتمى ... إلخ؟.
وقدم العبادة على الاستعانة ليتوافق رءوس الآي ، وليعلم منه أن تقديم الوسيلة على طلب الحاجة أدعى إلى الإجابة ، فإن من تلبّس بخدمة الملك وشرع فيها بحسب وسعه ، ثم طلب منه الإعانة عليها أجيب إلى مطلبه ، بخلاف من كلّفه الملك بخدمته ، فقال : أعطنى ما يعيننى عليها ، فهو سوء أدب ، وأيضا : من استحضر الأوصاف العظام ما أمكنه إلا المسارعة إلى الخضوع والعبادة ، وأيضا : لما نسب المتكلم العبادة إلى نفسه أوهم ذلك تبجحا واعتدادا منه بما يصدر عنه فعقبه بقوله : (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ، دفعا لذلك التوهم.
والعبادة : أقصى غاية الخضوع والتذلل ، ومنه طريق معبّد ، أي : مذلل ، والاستعانة : طلب المعونة ، والمراد طلب المعونة فى المهمات كلّها ، أو فى أداء العبادات.
والضمير المستتر فى الفعلين للقارىء ومن معه من الحفظة وحاضرى صلاة الجماعة ، أو له ولسائر الموجودين. أدرج عبادته فى تضاعيف عبادتهم وخلط حاجته بحاجتهم لعلها تقبل ببركتها ويجاب إليها ، ولهذا شرعت الجماعة. قاله البيضاوي.