قال أبو سليمان الداراني : إذا اعتادت النفوس على ترك الآثام جالت فى الملكوت ، ثم عادت إلى صاحبها بطرائف العلوم ، من غير أن يؤدّى إليها عالم علما. ه.
قال الحق تعالى : (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) بدنس الهفوات ، فمنعكم من مباشرة تلك العلوم الوهبيات ، فلما عقدتم التوبة ، وعزمتم على تركها ، تاب عليكم وعفا عنكم ، فالآن باشروها ، وابتغوا ما كتب الله لكم ، من الوصول إلى معرفته ، والعكوف فى حضرة قدسه ، وكلوا من ثمرات تلك العلوم ، واشربوا من خمرة الحىّ القيوم ، حتى يطلع عليكم فجر الكشف والبيان ، وتشرق على قلوبكم شمس نهار العرفان ، فحينئذ تضمحلّ تلك العلوم ، وتمحى تلك المعالم والرسوم. ولم يبق إلا الاستغراق فى مشاهدة الحي القيوم ، فلا تباشروها وأنتم عاكفون فى تلك المساجد. فمشاهدة وجه الحبيب تغنى عن مطالعة المعالم والمشاهد. تلك حدود الله فلا تقربوها ، أي : لا تقفوا مع تلك العلوم وحلاوة تلك الرسوم ؛ فإنها تمنعكم من مشاهدة الحىّ القيوم. كذلك يبين الله آياته الموضّحة لطريق وصوله للناس ، لعلهم يتقون مشاهدة ما سواه. والله تعالى أعلم.
ولما أراد الحق أن يتكلم على الحج قدّم الكلام على الأموال ؛ لأنها سبب فى وجوبه ، والوصول إليه فى الغالب ، فقال :
(وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٨))
قلت : أصل الإدلاء : إرسال الدّلو فى الماء ليتوصل به إلى أخذ الماء من البئر ، ثم أطلق فى كل ما يتوسل به إلى شىء ، يقال : أدلى بماله إلى الحكام ، أي : دفعه رشوة ، ليتوصل بذلك إلى أخذ أكثر منه ، وهو المراد هنا ، وفى القاموس : أدلى برحمه : توسّل ، وبحجّته : أحضرها ، وإليه بماله : دفعه. ومنه : (وتدلوا بها إلى الحكام). ه. و (تدلوا) معطوف على (تأكلوا) ، منهى عنهما معا.
يقول الحق جل جلاله : (وَلا تَأْكُلُوا) يا معشر المسلمين (أَمْوالَكُمْ) أي : أموال بعضكم بعضا ، (بِالْباطِلِ) أي : بغير حق شرعى ؛ إما بغير حق أصلا كالغصب والسرقة والخيانة والخدع والتطفيف والغش وغير ذلك. أو بحق باطل كما يؤخذ فى السحر والكهانة والفأل والقمار والجاه ، وهدية المديان (١) ، وهدية القرض ، والضمان ،
__________________
(١) رجل مديان : إذا كان عادته أن يأخذ بالدين.