مستغربا ، عدل عن مخاطبة الرسول إلى مخاطبتهم أنفسهم لعلّهم يتنبّهوا ويستيقظوا عن نومة الغفلة ، فقال : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) ، فأنتم ترون أنّكم لستم موجودين من تلقاء أنفسكم ، بل موجودون من الغير مخلوقون له ، وليس مجرد الإيجاد كيفما دام ، بل وجودكم وجود مؤجّل مقدّر ، فهذا الوجود المؤجل المقدّر المحدود هذا ، لمفاض من عنده ، فكما أنّ أصل وجودكم مقصود بالإفاضة فكذا أجله وقدره وحدّه ، وليس الأجل الحقيقي المعيّن عندكم فهو عند غيركم ، فوجودكم من عنده أوله وآخره وجميع جهاته.
ثم إنّكم مع ذلك تمترون في توحيده ، وليس كلّ هذا الإيجاد والتدبير منه سبحانه أمرا اضطراريّا من غير علم وتدبير ، حتى يكون إيمانكم وكفركم به على السواء ، بل هو الله في السموات وفي الأرض ، وفي تكرار «في» تفصيل الكلام (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) ، لأنّه الله ـ عزّ اسمه ـ.
ولمّا بلغ الكلام هذا المبلغ واستشعر إعراضهم ، أعرض عنهم وعدل ثانيا عن خطابهم إلى خطاب رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ وعن غيبة نفسه ـ وهو على كلّ شيء شهيد ـ إلى التكلّم بالغير ، فقال : (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) (١).
ثمّ ذكر أنّ ذلك لتكذيب منهم سابق ، وأنّه سيأتيهم أنباء ذلك. فقال : (فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) ، فهو وبال ما هو معهم من قبل (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٢) وهي ما سيشاهدونه من وبال كفرهم.
فهذا ما افتتحت به السورة ، ولا يزال يحوم إلى آخر السورة حول هذا البيان
__________________
(١). الآية (٤) من السورة.
(٢). الآية (٥) من السورة.