الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) (٣١).
ولقد صنع هذا القرآن في النفوس التي تلقّته وتكيّفت به ، أكثر من تسيير الجبال وتقطيع الأرض وإحياء الموتى ، لقد صنع في هذه النفوس ، وبهذه النفوس ، خوارق أضخم وأبعد آثارا في أقدار الحياة ، بل أبعد أثرا في شكل الأرض ، ذاته ، فكم غيّر الإسلام والمسلمون من وجه الأرض الى جانب ما غيّروا من وجه التاريخ؟
وإن طبيعة هذا القرآن ذاتها ، طبيعته في دعوته وفي تعبيره ، طبيعته في موضوعه وفي أدائه ، طبيعته في حقيقته وفي تأثيره ، إنّ طبيعة هذا القرآن لتحتوي على قوة خارقة نافذة يحسّها كل من له ذوق وبصر وإدراك للكلام ، واستعداد لإدراك ما يوجّه إليه ويوحي به. والذين تلقوه وتكيفوا به سيّروا ما هو أضخم من الجبال ، وهو تاريخ الأمم والأجيال. وقطّعوا ما هو أصلب من الأرض ، وهو جمود الأفكار وجمود التقاليد. وأحيوا ما هو أخمد من الموتى ، نعني الشعوب التي قتل روحها الطغيان والأوهام ؛ والتحول الذي حصل في نفوس العرب وحياتهم أضخم بكثير من تحوّل الجبال عن رسوخها ، وتحوّل الأرض عن جمودها ، وتحوّل الموتى عن الموت : (بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً).
وهو الذي يختار نوع الحركة وأداتها في كل حال. فإذا كان قوم بعد هذا القرآن لم تتحرك قلوبهم ، فما كان أجدر بالمؤمنين الذين يحاولون تحريكها ان ييأسوا من القوم ، وأن يدعوا الأمر لله ؛ فلو شاء سبحانه لخلق الناس باستعداد واحد للهدى ، وهدى الناس جميعا على نحو خلقه الملائكة ، لو كان يريد.
لقد شاء الله جلّ جلاله أن يوجد الإنسان على وجه الأرض ، ومعه العقل والإرادة والاختيار والكسب ، حتى يتميّز المؤمن من الكافر ، والمستقيم من العاصي. وبذلك تتحقّق الحكمة الإلهية في تنوّع الخلق واختلاف مشاربهم :
(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (١١٩) [هود].
* * *