الكتاب والحق الذي اشتمل عليه فيقول سبحانه :
(المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) (١).
وهذا الافتتاح يلخص موضوع السورة كله ، ويشير الى جملة قضاياها ، وتسترسل السورة في استعراض آيات القدرة وعجائب الكون الدالة على قدرة الله الخالق وحكمته وتدبيره ؛ وأن من مقتضيات هذه الحكمة أن يكون هناك وحي لتبصير الناس ، وأن يكون هناك بعث لحساب الناس. وأنّ من مقتضيات تلك القدرة ، أن تكون مستطيعة بعث الناس ورجعهم الى الخالق الذي بدأهم وبدأ الكون كله قبلهم ، وسخّره لهم ليبلوهم فيما آتاهم.
وتبدأ الآيات الرائعة في رسم المشاهد الكونية الضخمة نظرة الى السماوات ، ونظرة الى الأرضين ، ونظرة الى مشاهد الأرض وكوامن الحياة.
قال تعالى :
(اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٣).
وهذه اللفتة الأولى الى مظاهر القدرة الإلهية تحرّك الوجدان ، فيقف أمام هذا المشهد الهائل يتملّاه ، ويدرك أنه ما من أحد يقدر على رفع السماء بلا عمد ـ أو حتى بعمد ـ إلا الله جلّت قدرته ؛ وقصارى ما يرفعه الناس بعمد أو بغير عمد ، تلك البنايات الصغيرة الهزيلة ، القابعة في ركن ضيّق من الأرض لا تتعداه ؛ ثم يتحدث الناس عمّا في تلك البنايات من عظمة ومن قدرة وإتقان ، غافلين عما يشملهم ويعلوهم من سماوات مرفوعة بغير عمد ، وعمّا وراءها من القدرة الحق ، والعظمة الحق ، والإتقان الذي لا يتطاول إليه خيال إنسان.
ومن هذا المنظور الهائل الذي يشاهده الناس في خلق الله ، الى المغيب الهائل الذي تتقاصر دونه المدارك والأبصار :