الأكثرين ، حيث إنّ فيها مصالح عامّة ، ومن جملتها تحذيرهم عن ارتكاب المعاصي والمنهيات ، وحيث كانت فيها مصالح عامّة فلا يلتفت لفتّ الجزئيّ لأجل الكلّيّ كما في قطع العضو لصلاح البدن.
على أنّا لا نسلّم كون العقوبة شرّا محضا بالنسبة إلى الشخص المعذّب أيضا ، بل يمكن أن تكون بالقياس إليه أيضا خيرا ، كما قال بعض العرفاء : «إنّ النّار قد تتّخذ لبعض الأمراض ، وهو الداء الذي لا ينفى إلّا بالكيّ من النار ، فقد جعل الله تعالى النار وقاية في هذا الموطن من داء هو أشدّ من النار في حقّ المبتلى به ، وأيّ داء أشدّ من الكبائر؟ فقد جعل الله لهم النار يوم القيامة دواء كالكيّ بالنار ، فدفع بدخولهم النار يوم القيامة داء عظيما أعظم من النار ، وهو غضب الله تعالى ، ولهذا يخرجون بعد ذلك من النار إلى الجنّة ، كما جعل في الحدود الدنياويّة وقاية من عذاب الآخرة». (١) انتهى كلامه.
وأقول : ولعلّ معنى قوله : «ولهذا يخرجون» أنّه يخرج بعض أصحاب الكبائر ، كالمؤمن الفاسق ، وإلّا فالكافر مخلّد في النار كما هو المذهب الحقّ.
وأمّا الجواب عن الشّبهة على تقرير المتكلّمين وعلى مذهب المعتزلة ومن يحذو حذوهم في القول بالحسن والقبح العقليّين ، وبأنّ فعل العبد صادر عنه بإرادته واختياره ، فبأن يقال : إنّ الله تعالى كلّف العباد ووعدهم على الطاعة ، وأوعدهم على المعصية ، لأنّ صلاح حالهم في التكليف ، ثمّ إنّه يجب عليه تعالى ذلك لأنّ التكليف والوعد والايعاد لطف من الله تعالى يقرّبهم إلى الطاعة ويبعدهم عن المعصية ، واللطف واجب. ثمّ إنّه يجب عليه تعالى الإثابة على الطاعات ، إذ الإخلال به قبيح وظلم ، وأمّا العقاب فحسن أيضا لارتكابهم المعاصي. فإذا قيل لم يعذّبون؟ قيل : لأنّهم ارتكبوا المعاصي. وإذا قيل : لم ارتكبوا المعاصي؟ قيل : لإرادتهم ذلك ، وكونهم مختارين فيه. وإذا قيل : أليس يجب صدور المعصية عنهم حتّى يطابق علم الله تعالى؟ قيل : إنّ الله تعالى كما علم وجود المعصية علم أنّ المعصية تصدر عنهم باختيارهم وإرادتهم ، فعلم الله تعالى لا ينافي
__________________
(١) والقائل هو الشيخ العارف محي الدين بن العربي ، في الفتوحات المكيّة.