أن يقال : الإنسان حال اجتماع تلك الأسباب الموجبة للأفعال الغضبية ، وبراءتها عن الدواعي المعارضة لها ، فإنه يمكن أن لا يأتي بتلك الأفعال؟.
فالحاصل : أنكم إن أردتم أن سلامة أعضائه (١) حال انضمام دواعي الترك إليها ، بدلا عن دواعي الفعل. لأمكنه ذلك. فهذا مسلم. ولا يقدح في قولنا. وإن أردتم بأن سلامة أعضائه حال انضمام دواعي الفعل إليها ، وكانت تلك الدواعي خالية عن المعارض ، فإن مع التقدير يمكنه الترك. فهذا ممنوع. والعلم بامتناعه ضروري. ولما عرفت الكلام في هذا المثال ، أمكنك اعتبار أحوال جميع الأحوال والأفعال. ولا فائدة في التطويل.
ولنختم هذا البرهان القاطع ، بفصل منقول عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ يقوي ما ذكرناه.
روي أنه رضي الله عنه خطب (٢) فقال : وأعجب ما في الإنسان قلبه «فإن سنح له الرجاء ، أذله الطمع. وإن هاج به الطمع ، أهلكه الحرص. وإن ملكه اليأس ، قتله الأسف ... وإن عرض له الغضب ، اشتد به الغيظ. وإن أسعده الرضى [نسى (٣)] التحفظ. وإن ناله الخوف ، شغله الحذر ... وإن أصابته مصيبة قصمه الجزع ... وإن وجد مالا ، أطغاه الغنى. وإن عضته الفاقة ، شغله البلاء. وإن جهده الجوع ، قعد به الضعف ... فكل
__________________
(١) الأصل : أعضائه محال لو انضمت إليها دواعي الترك بدلا ... الخ.
(٢) نص الخطبة من كتاب «نهج البلاغة» طبعة دار التعارف ببيروت سنة ١٤٠٢ ه صفحة ٦٨١ : لقد علق بنياط هذا الإنسان بضعة ، هي أعجب ما فيه. وذلك القلب. وله مواد من الحكمة وأضداد من خلافها. فإن سنح له الرجاء أذله الطمع وإن هاج به الطمع ، أهلكه الحرص. وإن ملكه اليأس ، قتله الأسف. وإن أعرض له الغضب ، أشتد به الغيظ. وإن أسعده الرضى ، نسى التحفظ. وإن ناله الخوف ، شغله الحذر. وإن اتسع له الأمن ، استلبته الغرة. وإن أفاد مالا ، أطغاه الغنى. وإن أصابته مصيبة ، فضحه رجوع. وإن عضته الفاقة شغله البلاء. وإن جهده الجوع ، فعد به الضعف. وإن أفرط به الشبع ، كظته البطنة. فكل تقصير به : مضر ، وكل إفراط له : «مفسد» اه.
(٣) سقط (م).