قلوب من أتبعهما. أما عند الجبرية فلأن العبد لا يقدر على الإيجاد ، وأما عند القدرية فلأن العبد لا يقدر على هذا النوع من الإيجاد. ولما حصل اسم الضلال في هذه السورة ، مع أنه لم يحصل فيها خلق الجهل والضلال ، علمنا : أن الإضلال غير موضوع في اللغة لخلق الضلال. وأما ثالثها : فلأن الإضلال في مقابلة الهداية ، فكما صح أن يقال : هديته فما اهتدى ، وجب صحة أن يقال : أضللته فما ضل. وإذا كان كذلك ، امتنع حمل لفظ الإضلال على خلق الإضلال.
الوجه الثالث في بيان أن لفظ الإضلال في هذه الآيات لا يمكن حمله على خلق الضلال هو أن هذا التفسير لا يليق بهذه الآيات الخمس. وذلك لأن قوله تعالى (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ) (١) وكيف يجوز أن يقال : إني لم أرسل رسولا إلا بلسان قومه ليبين لهم الغرض من التكاليف ، ثم يقول بعده : إني أضللتهم عن الدين؟ فإنه لا تعلق لهذا الكلام بما قبله ، ويصير الكلام ركيكا.
فثبت بهذه الوجوه : أنه لا يمكن أن يكون المراد من قوله «يضل من يشاء» خلق الكفر والجهل فيهم. وإذا ظهر هذا ، علمنا أن المراد منه شيء آخر. وحينئذ لا نحتاج إلى تعيين ذلك المراد في مقام الجدل.
ثم إنا نبين وجوها كثيرة تحتملها هذه الآية :
فالتأويل الأول : إن الرجل إذا ضل باختياره عند حضور شيء من غير أن يكون لذلك أثر في ضلاله. فيقال لذلك الشيء : إنه أضله. قال تعالى في حق الأصنام : (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) (٢) أي ضلوا عند رؤيتها. وقال تعالى : (وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً. وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً) (٣) أي ضل كثير من الناس عند رؤيتهم. وقال : (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ
__________________
(١) سورة إبراهيم ، آية : ٤.
(٢) سورة إبراهيم ، آية : ٣٦.
(٣) سورة نوح ، آية : ٢٣ ـ ٢٤.