القول الثاني : إنه ثبت : أنه لا بداية لحركات الأفلاك ، وثبت أيضا : أن انقطاع تلك الحركات محال ، وأن رجوعها عن مجاريها إلى جانب آخر محال ، وإذا ثبت هذا فنقول: إنه لا جزء من أجزاء الحركة الفلكية ، إلا وقد حصل قبله جزء آخر من الحركة. وانتهاء الفلك بذلك الجزء السابق من الحركة ، إلى ذلك الحد المعين : أوجب حركته من ذلك الحد ، إلى حد آخر بعده. وإذا كان كذلك ، فكل جزء من أجزاء الفلك ، إنما حصل لأن الجزء المتقدم عليه ، أوجب وقوعه على ذلك الوجه [وعلى هذا التقدير فيكون وقوع هذه الحركة على هذا الوجه (١)] أمرا واجب الوجود لذاته (٢) والواجب لذاته لا يجوز تعليله بعلة منفصلة ، فامتنع تعليل كون الفلك متحركا بعلة منفصلة.
والقول الثالث : إن الفلك قديم المادة ، محدث الصورة. ومادته إنما هي الأجزاء التي لا تتجزأ. وتلك الذرات والهباءات. وعلى هذا القول ، ففي سبب حركته بالاستدارة قولان :
الأول : إن تلك الأجزاء. كان بعضها حارا ، وبعضها باردا ، فلما اختلطت وامتزجت اختلاطا محكما ، بحيث تعذر انفصال بعضها عن البعض ، صار ذلك سببا لحصول الحركة الدورية. ومثاله : أن الذهب إذا ذوب في البوتقة. فإنه بعد الذوب يستدير على نفسه. والسبب فيه : أن الجزء الذي يلاصق البوتقة تقوى سخونته جدا. ولأجل قوة السخونة يصعد ، والجزء المرتفع تضعف سخونته ، فيميل إلى أسفل. وأجزاء الذهب متلاحمة متصلة ، التحاما واتصالا ، يمنع انفكاك بعضها عن البعض. ولما طلب بعض تلك الأجزاء الصعود ، وبعضها الهبوط ، وتعذر انفصال البعض عن البعض ، صار ذلك سببا لحصول الحركة الدورية في جرم الذهب الذائب. فلا يمتنع أن يكون سبب استدارة الفلك هذه الحالة ، أو ما يشبهها ويناسبها.
__________________
(١) سقط (م).
(٢) أمرا واجبا لذاته (م).