فتعرف أحوال المسجد الحرام والمسجد الأقصى ، فإنك لا تجد في الدنيا بناء يساويهما في البقاء.
وأما المرتبة الثانية : فكل كلام يتعلق بالمعاني الروحانية ، مثل : صفات الإله سبحانه وتعالى ، وأفعال الخيرات. فإنه يبقى إلى أقصى الإمكان. وإن شئت فتعرف كتب الله تعالى المنزلة. كالتوراة والإنجيل والزبور والفرقان. ومثل : كتب الحكمة. على اختلاف أصنافها فإنها باقية على وجه الدهر ، فلما رأينا أن الجسمانيات لما تعلقت بالروحانيات بقيت بقاء عظيما ، مع أن الأصل في الجسمانيات هو الفناء والانقراض والانقضاء. فالنفس التي هي جوهرة روحانية محضة ، بحسب الذات ، وبحسب جميع الصفات ، ثم إنها محل معرفة الله تعالى ، التي هي الإكسير الأعظم الموجب للبقاء الدائم ، لأن تكون موصوفة [بالبقاء والنقاء مبرأة (١)] عن التغير والفناء ، كان أولى.
الحجة الثامنة : الاستقراء يدل على أن الإنسان ، كلما تجلى في قلبه نور معرفة الله تعالى ، وانكشفت له صفات جلاله وكبريائه ، فإنه تقوى نفسه وتكمل قوته ، ويصير بحيث لا يبالي بأعظم سلاطين العالم ، ولا يقع في عينه منصب أحد البتة.
وأما إذا زال ذلك الكشف والتجلي ، فإنه يعود إلى حالته الأولى بحيث يخاف من أقل الأشياء ، ويحذر أصغر الموجبات. يحكى أن «إبراهيم الخواص» كان في البادية ، ومعه بعض مريديه فاتفق في بعض الليالي ، أن وقع في مقام الكشف. فاضطجع هناك ، وأحاطت به السباع ، وأنه لم يلتفت إلى شيء منها. وأما المريدون فخافوا من تلك السباع ، فصعدوا بعض الأشجار خوفا منها ، وفي الليلة الثانية زالت تلك الحالة ، فاضطجع ، فوقعت بعوضة على يده ، فأظهر التوجع من وقع تلك البعوضة. فقال له بعض المريدين (٢) : لم
__________________
(١) من (ل ، طا).
(٢) ذلك المريد (م).