على الترك. والناس يقولون لصاحب هذه الخواطر المختلفة إنه إنسان ذو بدوات ، وأنه ليس له في شيء من الأفعال ثبات (١) ومعنى كونه ذو بداوات : إنه تارة يبدو له كون الفعل راجح الصلاح ، وتارة أخرى يبدو له (كون الفعل) (٢) راجح الفساد. وإنما كان مثل هذا الإنسان قليل الثبات ، لأنه لما كان الفعل معللا بالقدر مع الدواعي ، فعند تغير الدواعي يجب تغير الفعل. فالإنسان الذي يكون ذا بدوات ، لا بد وأن يكون له في شيء من الأفعال ثبات.
واعلم : أن الجهات المعتبرة بحسب المصالح والمفاسد كثيرة خارجة عن الضبط ، وكلما كان وقوف العقل عليها أكثر كانت الحيرة والاضطراب أكثر ، وكلما كان وقوف العقل عليها أقل كان البقاء والثبات على الطريق الواحد أقل.
الفرع الثالث : وهو أنا قد ذكرنا أنه إذا كان الفعل راجح المفسدة في اعتقاد الفاعل لزم الترك ، وإذا لم يحصل أيضا فيه اعتقاد حصول الصلاح يجب الترك. إذا عرفت هذا فنقول: إنه لا معنى للترك إلا بقاء الشيء على العدم الأصلي ، فإن كان على تقدير أن يحصل اعتقاد رجحان المفسدة لم يحصل إلا الترك (وعلى تقدير عدم اعتقاد الرجحان ، لا في الفعل ولا في الترك ، لم يحصل إلا الترك (٣) فعند هذا يظهر أنه ليس لاعتقاد كونه راجح المفسدة أثر البتة.
بل إن حصل اعتقاد (٤) أنه راجح الفعل حصل الفعل ، وإن لم يحصل هذا الاعتقاد بقي الفعل على عدمه الأصلي ، بناء على أن علة العدم هي عدم العلة ، فحينئذ لا يكون لاعتقاد أن هذا الفعل راجح المفسدة أثر في الترك البتة. فهذا يدل على أن اعتقاد كونه راجح المفسدة ، لا أثر له البتة (في الترك) (٥) وكنا قد دللنا في أول هذا الباب على أن القدرة لا أثر لها البتة في الترك ، فقد ظهر بالبحث الذي ذكرناه : أن القدرة لا أثر لها البتة في الترك. وأن الداعية لا أثر لها البتة في الترك. وذلك يقرر ما ذكرناه من أن المستند إلى
__________________
(١) ثبات (س).
(٢) من (س).
(٣) من (م).
(٤) اعتقاد (س).
(٥) من (م).