فظهر بهذه البيانات : أن هذه الدلائل التي تمسك بها نفاة الرؤية في غاية الضعف والسقوط.
وأما مثبتو (١) الرؤية فقد عولوا على أن قالوا : الله تعالى موجود ، وكل موجود فإنه تصح رؤيته ودليلهم في الإثبات : أن كل موجود تصح رؤيته : قد ذكرناه في أحكام الموجودات ، وأوردنا عليه اعتراضات قوية ، لا يمكن دفعها البتة وإذا عرفت ضعف دلائل الفريقين فنقول : بقي هذا البحث في محل التوقف ، إلا أنا رأينا الأنبياء والرسل عليهمالسلام مخبرين عن حصول هذه الرؤية ، ورأينا أصحاب المكاشفات يخبرون عن وقوع أحوال كأنها جارية مجرى المقدمات لهذه الرؤية ، فقوي الظن في جواز وقوعها وحقائق الأشياء لا يعرفها بتمامها إلا الله الحكيم.
__________________
(١) لا يصح لهم الإثبات بدليل عقلي. لورود النص بمنع الرؤية في قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) [الأنعام ١٠٣] ولأن القضية الكبرى كاذبة فإن العقل موجود ، ولا يرى والإنسانية لا ترى ، والشجاعة لا ترى. وهي أشياء موجودة على رأى المؤلف وابن سينا. وقول المؤلف : إن الرؤية تثبت ١ ـ بأخبار الأنبياء ٢ ـ ورؤى المتصوفة : قول يدل على منع الرؤية. فإن الرؤى لا تثبت عقائد دينية. وأخبار الأنبياء دلت على منع الرؤية. ففي التوراة في أسفار موسى الخمسة لما طلب موسى عليهالسلام من الله أن يراه : قال له : لا تقدر أن ترى وجهي لأن الإنسان لا يراني ويعيش. وهذا النص يمنع الرؤية ، لأن الانسان لا يتحمل الرؤية. وفي سفر أشعياء : «حقا :
أنت إله محتجب يا إله إسرائيل» وفي إنجيل يوحنا : «الله لم يره أحد قط» واليهود يقولون : إن الله لا يرى ـ بضم الياء ـ كما يقول العقلاء من المسلمين. والنصارى خالفوا النصوص المقدسة عندهم التي تمنع الرؤية ، وقالوا : بجواز الرؤية ، لأنهم يعتقدون ـ زورا ـ أن الله ظهر للناس في جسد المسيح. فالناس لما رأوا المسيح ، فإنهم قد رأوا الله ـ على زعمهم ـ ودخل زعمهم هذا في عقائد بعض المسلمين ، كما دخل زعمهم في كلمة الله التي هي أقنوم العلم عندهم لقد زعموا إن الكلمة التي هي المسيح ، قديمة مع الله. فيكون المسيح الذي هو الكلمة إلها قديما ـ الله تعالى عما يقولون علوا كبيرا ـ فيكون الكلام زائدا على الذات.
وفي الأحاديث النبوية : أن عائشة ـ رضى الله عنها ـ قالت : من حدثكم أن محمدا قد رأى ربه ، فقد أعظم الفرية. ثم قرأت (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) وهذا النص محكم لأن له تفسيرا واحدا هو منع الإدراك وفي القرآن نصان متشابهان هما : ١ ـ (إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) ٢ ـ (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) والنص الأول يحتمل أنهم محجوبون عن رضا الله ورحمته ، لا عن رؤية وجهه. والنص الثاني يحتمل أنهم ينظرون إلى نعم الله وخيراته على أهل الجنة. والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال ، صار متشابها ، ويلزم رده. والحالة هذه إلى المحكم ، لبيان مراد اللهعزوجل.