مسألة أخرى
إن قال قائل ـ معترضا على ما اعتمدناه في دليلنا على صحّة الصّرفة ، حيث قلنا : إنّ القرآن لو كان خارقا للعادة بفصاحته لوجب أن يقع الفرق بين كلّ سورة منه وبين أفصح كلام العرب ، لكلّ من وقع له الفرق بين أعلى كلامهم في الفصاحة وأدونه ، ويكون الفرق بين القرآن وبين سائر الكلام ، إذا كان خارقا للعادة ، من المزيّة والفرق أكثر ممّا بين كلّ كلامين جرت بهما العادة ـ لم أنكرتم أن يكون ما أوجبتموه غير واجب؟ لأنّ الفرق بين أفصح كلام العرب وأدونه وبين شعر امرئ القيس ـ من هو في أعلى الطّبقات ـ وشعر المقصّر من المحدثين ، إنّما ظهر على الحدّ الّذي ذكرتموه من حيث جمع بين ما لا فصاحة له ـ وإن كانت فيسيرة ضعيفة ـ إلى ما كثرت فصاحته وتناهت بلاغته ، فوقع الفرق على أقوى وجه الظّهور.
وليس هذا سبيل للقرآن وما يضمّ إليه من أفصح كلام العرب ؛ لأنّ القرآن وإن بان من جميع ذلك وتقدّم في الفصاحة عليه بما يجاوز (١) العادة ويخرقها ، فإنّ الفرق لا يجب ظهوره في الأوّل ؛ لأنّ ما يصحّ [نسبته] إلى القرآن قد استبدّ برتبة في الفصاحة قويّة ومنزلة فيها رفيعة ، تقتضيان هذا اللّبس والاشتباه. ألا ترون أنّ أكثر النّاس يفرّقون بين ثوب القصب الّذي يساوي دينارا ، وبين ما يساوي عشرة دنانير ، ولا يفرّق بين الفصّ الزّجاج الّذي قيمته درهم وبين الفصّ الياقوت الّذي قيمته دينار إذا زالت عنهما وجوه التمويهات والتدليسات.
وليس يفرّق هؤلاء بين كلّ ثوبين وكلّ فصّين كانت بينهما هذه القيمة ، بل ولا
__________________
(١) في الأصل : يجاوزه ، وما أثبتناه مناسب للسياق.