والله سبحانه له الخلق والأمر. فالخلق فعله ، والأمر قوله ، ومتعلقه أفعال عباده ، وهو سبحانه قد يأمر عبده ويريد من نفسه أن يعين عبده على فعل ما أمره ، لتحصل حكمته ومحبته من ذلك المأمور به ، وقد يأمره ولا يريد من نفسه إعانته على فعل المأمور ، لما له من الحكمة الثابتة في هذا الأمر وهذا الترك ، يأمره لئلا يكون له عليه حجة ، ولئلا يقول : ما جاءني من نذير ، ولو أمرتني لبادرت إلى طاعتك ، ولم يرد من نفسه إعانته ، لأن محله غير قابل لهذه النعمة. والحكمة التامة تقتضي أن لا توضع النعم عند غير أهلها. وأن لا تمنع من أهلها.
قال تعالى : (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها (٢٦)) [الفتح] وقال : (أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣)) [الأنعام] وقال : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ (٢٣)) [الأنفال] ولا يقال : فهلّا سوّى بين خلقه في جعلهم كلهم أهلا لذلك ، فإن هذا ممكن له ، ولا أن يقال : فهلا سوّى بين صورهم وأشكالهم وأعمارهم وأرزاقهم ومعاشهم ، وهذا وإن كان ممكنا ، فالذي وقع من التفاوت بينهم هو مقتضى حكمته البالغة وملكه التام وربوبيته ، فاقتضت حكمته أن سوّى بينهم في الأمر ، وفاوت بينهم في الإعانة عليه ، كما فاوت بينهم في العلوم والقدر والغنى والحسن والفصاحة وغير ذلك ، والتخصيصات الواقعة في ملكه لا تناقض حكمته ، بل هي من أدلّ شيء على كمال حكمته ، ولولاها لم يظهر فضله ، ومنه قال تعالى : (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧)) [الحجرات] فضلا من الله ونعمة ، والله عليم بمن يصلح لهذه النعمة ، حكيم في وضعها عند أهلها ومنعها غير أهلها ، وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩)) [الحديد].