الأول ، منع اللزوم ، وإن عنيتم الثاني مع انتفاء اللازم ، فإن التسلسل في الآثار المستقبلة ممكن ، بل واجب ، وفي الآثار الماضية فيه قولان للناس ، والتسلسل في العلل والفاعلين محال ، باتفاق العقلاء ، بأن يكون لهذا الفاعل فاعل قبله ، وكذلك ما قبله إلى غير نهاية وأما أن يكون الفاعل الواحد القديم الأبدي لم يزل يفعل ، ولا يزال ، فهذا غير ممتنع ، إذا عرف هذا فالحكمة التي لأجلها يفعل الفعل تكون حاصلة بعده ، فإذا كان بعدها حكمة أخرى ، فغاية ذلك أن يلزم حوادث لا نهاية لها ، وهذا جائز بل واجب باتفاق المسلمين ، ولم ينازع إلا بعض أهل البدع من الجهمية والمعتزلة.
فإن قيل : فيلزم من هذا أن لا تحصل الغاية المطلوبة أبدا.
قيل : بل اللازم أن لا تزال الغاية المطلوبة حاصلة دائما ، وهذا أمر معقول في الشاهد ، فإن الواحد من الناس يفعل الشيء لحكمة يحصل بها محبوبه ، ثم يلزم من حصول محبوبه محبوب آخر يفعل لأجله ، وهلمّ جرا ، حتى لو تصوّر دوامه أبدا ، لكانت هذه حاله وكماله ، فلم تزل محبوباته تحصل شيئا بعد شيء ، وهذا هو الكمال الذي يريده ، مع غناه التام الكامل عن كلّ ما سواه ، وفقر ما سواه إليه من جميع الوجوه ، وهل الكمال إلا ذلك؟ وفواته هو النقص ، وهو سبحانه كتب على نفسه الرحمة والإحسان ، فرحمته وإحسانه من لوازم ذاته ، فلا يكون إلا رحيما محسنا ، وهو سبحانه إنما أمر العباد بما يحبه ويرضاه ، وأراد لهم من إحسانه ورحمته ما يحبه ويرضاه ، لكن فرق بين ما يريد هو سبحانه أن يخلقه ويفعله لما يحصل به من الحكمة التي يحبها ، فهذا يفعله سبحانه ، ولا بد من وجوده ، وبين ما يريد من العباد أن يفعلوه ويأمرهم بفعله ، ويجب أن يقع منهم ، ولا يشاء خلقه وتكوينه.
ففرق بين ما يريد خلقه ، وما يأمر به ، ولا يريد خلقه ، فإن الفرق بين ما يريد الفاعل أن يفعله ، وما يريد من المأمور أن يفعله ، فرق واضح ،