عن اصطلام العبد
لغلبة وجود الحق وقوة العلم به في العبد فيزيد بذلك يقينه به ومعرفته به وبصفاته
سبحانه فيذهل بذلك كما يذهل الإنسان في أمر عظيم دهمه ، فإنه ربما غاب عن شعوره
بما دهمه من الأمور المهمة.
مثاله : رجل وقف
بين يدي سلطان عظيم قاهر من ملوك الأرض ، فأذهله ما يلاحظه من هيبته وسلطانه عن
كثير مما يشعر به ، وهذا تقريب والأمر فوق ذلك ، فكيف بمن أشهده الله عزوجل فردانيته حيث كان ولا شيء معه فرأى الأشياء مواتا لا قوام
لها إلا بقدرته ، فشهدها خيالا كالهباء بالنسبة إلى وجود الحق تعالى ، وذلك في
البصائر القلبية بالكشف الصحيح بعد التصفية والتدرب في القيام بأعباء الشريعة وحمل
أثقالها والتخلق بأخلاقها ، وصفّى الله عبده من درنه ، ويكشف لقلبه فيرى حقائق
الأشياء ، فمتى تجلّت على العبد أنوار المشاهدة الحقيقية الروحية الدالة على عظمة
الفردانية ، تلاشى الوجود الذي للعبد واضمحل كما يتلاشى الليل إذا أسفر عليه الصباح
، ويكون العبد في ذلك آكلا شاربا ، فلا يظهر عليه شيء مغاير لما اعتاده ؛ لكن
يزداد إيمانه ويقينه حتى ربما غطى إيمانه عن قلبه كل شيء في أوقات سكره ، ويبقى
وجوده كالخيال قائما بالعبودية في حضرة ذي الجلال ، وتعود عليه البصائر الصحيحة في
معرفة الأشياء عند صحوه ثم يزول عنه عدم التمييز ويقوى على حاله فيتصرف ، وذلك هو
البقاء بحيث يتصرف في الأشياء ولا يحجب عنه ما وجده من الإيمان والإيقان في حال
البقاء ، بل يعود عليه شعوره الأول بوجود آخر يتولاه الله عزوجل مشهده فيه قيامه عليه بتدبيره ، ويصل إلى مقام المراد بعد
عبوره على مقام المريد ، فيصير به يسمع وبه ينطق كما جاء في الحديث الصحيح.
ووجه آخر : وهو أن
الفاني في حال فنائه قبل أن يبلغ إلى مقام البقاء والصحو والتمييز ، فيستر من قلبه
محل الزهد والصبر والورع ، لا بمعنى أنّ