فالجاهلون هنا الكفار الذين علموا أنه رسول الله ، فهذا العلم لا ينافي الحكم على صاحبه بالجهل ، بل يثبت له العلم ، وينافي عنه في موضع واحد ، كما قال تعالى عن السحرة من اليهود : (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢)) [البقرة] فأثبت لهم العلم الذي تقوم به عليهم الحجة ، ونفى عنهم العلم النافع الموجب لترك الضار ، وهذا نكتة المسألة وسرّ الجواب ، فما دخل النار إلا عالم ، ولا دخلها إلا جاهل ، وهذا العلم لا يجتمع مع الجهل في الرجل الواحد ، يوضّحه أن الهوى والغفلة والإعراض تصدّ عن كماله واستحضاره ومعرفة موجبه على التفصيل ، وتقيم لصاحبه شبها وتأويلات تعارضه ، فلا يزال المقتضى يضعف ، والعارض يعمل عمله حتى كأنه لم يكن ، ويصير صاحبه بمنزلة الجاهل من كلّ وجه ، فلو علم إبليس أنّ تركه للسجود لآدم يبلغ به ما بلغ ، وأنه يوجب له أعظم العقوبة ، وتيقّن ذلك ، لم يتركه ، ولكن حال الله بينه وبين هذا العلم ، ليقضى أمره ، وينفذ قضاؤه وقدره ، ولو ظنّ آدم وحواء أنهما إذا أكلا من الشجرة ، خرجا من الجنة ، وجرى عليهما ما جرى ، ما قرباها ، ولو علم أعداء الرسل تفاصيل ما يجري عليهم ، وما يصيبهم يوم القيامة ، وجزموا بذلك ، لما عادوهم.
قال تعالى عن قوم فرعون : (وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (٣٦)) [القمر] وقال : (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (٥٤)) [سبأ] وقال عن المنافقين وقد شاهدوا آيات الرسول وبراهين صدقه عيانا : (وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (٤٥)) [التوبة] وقال : (وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ (١٤)) [الحديد] وقال : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ (١٠)) [البقرة] وهو الشك ، ولو كان هذا لعدم العلم الذي تقوم به الحجة عليهم ، لما كانوا في الدرك الأسفل من النار ، بل هذا بعد قيام الحجة عليهم وعلمهم الذي لم ينفعهم ، فالعلم يضعف قطعا بالغفلة والإعراض