وخرج هاربا عن الدار. فبطل أن ينقل خبر صلبه أحد تطيب النّفس عليه على أن تظن به الصدق ، فكيف أن ينقله كافة؟ وهذا معنى قوله تعالى : (وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) [سورة النساء : ١٥٧]. إنما عنى بذلك تعالى : أنّ أولئك الفساق الذين دبّروا هذا الباطل وتواطئوا عليه ، هم شبهوا على من قلّدهم (١). فأخبروهم أنهم صلبوه وقتلوه وهم كاذبون في ذلك ، عالمون أنهم كذبة. ولو أمكن أن يشبه ذلك على ذي حاسة سليمة لبطلت الحقائق كلها ، ولأمكن أن يكون كل واحد منا يشبه عليه فيما يأكل ويلبس ، وفيمن يجالس ، وفي حيث هو (٢) فلعله نائم أو مشبه على حواسه. وفي هذا خروج إلى السخف ، وقول السفسطائية والحماقة.
وقد شاهدنا نحن مثل ذلك ، وذلك أننا أندرنا (٣) للجبل لحضور دفن المؤيد هشام ابن الحكم المستنصر فرأيت أنا وغيري نعشا فيه شخص مكفن ، وقد شاهد غسله رجلان شيخان جليلان حكيمان من حكام المسلمين ، ومن عدول القضاة في بيت ، وخارج البيت أبي رحمهالله وجماعة عظماء البلد ، ثم صلينا في ألوف من الناس عليه. ثم لم يلبث إلّا شهورا نحو السبعة حتى ظهر حيّا ، وبويع بعد ذلك بالخلافة. ودخلت عليه أنا وغيري وجلست بين يديه ورأيته ، وبقي ثلاثة أعوام غير شهرين وأيام (٤).
قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وأما قوله قد جوزتم التمويه على الكافة فقد بينا أنها لم تكن كافة قط ، وحتى لو صح أنها كانت كافة فكيف لا يجوز ذلك في كل آية تحيل الطبائع والحواس؟ فهو ضرورة لا يحمل على الممكنات ، فلو صحّ أنها كانت كافة لكان خبر الله تعالى أنه شبّه لهم حاكما على حواسهم ومحيلا لها كخروج النبي صلىاللهعليهوسلم ليلة هاجر بحضرة مائة رجل من قريش ، وقد حجب الله سبحانه أبصارهم عنه فلم يروه.
وأما ما لم يأت خبر عن الله عزوجل بأنه شبّه على الكافة فلا يجوز أن يقال ذلك لأنه قطع بالمحال وإحالة طبيعة ، وإحالة الطبائع لا تدخل في الممكن إلا أن يأتي بذلك يقين عن الله عزوجل فيلزم قبوله.
__________________
(١) بعض التفسيرات الأخرى للآية ، وهي الأشهر ، أنهم صلبوا فعلا رجلا آخر يشبه المسيح عليهالسلام. والمؤلف يشير هنا إلى أنه لم يحصل صلب ، بل نقل في ذلك خبر كاذب.
(٢) أي موجود ، أو كائن.
(٣) أندر الشيء. أخرجه (المعجم الوسيط : ص ٩١٠).
(٤) كذا في الأصل. والصواب : «وأياما».