إلى المقدمات ودفع الشكوك والشبهات ، وقد شبهوا نظر البصيرة (١) بنظر الباصرة ، وقول المعلم بالضوء الحسي وكما لا يتم الإبصار إلا بهما لا تتم المعرفة إلا بالنظر والتعليم ، وكذا الكلام في المعصوم ، إذ لا يكفي في صدقه إخبار معصوم آخر ، ما لم ينته إلى نظر العقل ، وأما الإلهام فلأنه لا يثق به صاحبه ما لم يعلم أنه من الله تعالى ، وذلك بالنظر وإن لم يقدر على العبارة عنه ، وأما تصفية الباطن فلأنه لا عبرة بها إلا بعد طمأنينة النفس في المعرفة ، وذلك بالنظر على أنه لو ثبت حصول المعرفة بدون النظر لم يضرنا ، لأنا إنما ندعي الاحتياج إليه في حق الأغلب ، وهذا لا يمنع لظهور كونه طريق العامة.
الرابع : أنا لا نسلم أن المعرفة واجب مطلق ، فإن معناه الوجوب على كل تقدير ، ووجوب المعرفة مقيد بحال الشك ، أي تردد الذهن في النسبة ، أو بحال عدم المعرفة للقطع بأنه لا وجوب حال حصول المعرفة بالفعل ، لامتناع تحصيل الحاصل.
والجواب : أن ليس معنى الوجوب على كل تقدير عموم التقادير والأحوال ، وإلا لما كان شيء من الواجبات واجبا مطلقا ، إذ لا يجب على تقدير الإتيان به ، ولأن وجوب الصوم مثلا مطلق بالقياس إلى النية حتى يجب مقيد بالقياس إلى كون المكلف مقيما غير مسافر حتى لا تجب الإقامة ، وكذا وجوب الحج مقيد بالاستطاعة ، فلا يجب تحصيلها مطلقا بالنسبة إلى الإحرام ونحوه من الشرائط ، فيجب بل معناه الوجوب على تقدير وجود المقدمة وعدمها ، ووجوب المعرفة ليس مقيدا بالنظر بمعنى أنه لو نظر تجب المعرفة ، وإلا فلا يكون مطلقا.
وأما بالنسبة إلى الشك أو عدم المعرفة فمقيد ، إذ لا وجوب على العارف ، فلا يكون تحصيل الشك وعدم المعرفة واجبا. ويندفع إشكال آخر هو نقض
__________________
(١) البصيرة : النور الذي يقذفه الله تعالى في قلب عبده فنرى المعنويات والباصرة لا ترى إلا المحسوسات. البصيرة ترى اللطيف ، والباصرة لا ترى إلا الكثيف. البصيرة ترى القديم ، والباصرة لا ترى إلا الحادث : البصيرة ترى المكون ، والباصرة لا ترى إلا الأكوان.
(راجع كتاب مع الإلحاد وجها لوجه ص ١١).