الرابع : الوصية عند العقلاء :
اتّفق العقلاء من كل دين حتى عند عبدة الأوثان أن يوصوا بحفظ أمور دينهم ودنياهم بعد مماتهم ، وهذه الوصية مما اقتضتها أحكام الفطرة والعقل والشرع.
أما كونها من أحكام الفطرة فلأن البشر مجبولون بالفطرة على أن يشرفوا على أعمالهم بأنفسهم ، ووفقا لما ترتئيه عقولهم وأهواؤهم ، فلا يحب الإنسان أن يشاركه غيره في قراره وما تهواه نفسه ، فهو لا يريد أن يفلت زمام أموره من يده فتكون بيد شخص آخر غريب عنه ، وهذه الرغبة لا تنتهي عند ساعة الاحتضار بل تمتد إلى ما شاء الله من عمر الزمن ما دام الإنسان يشاهد آثاره شاخصة بعد الموت ، لذا تراه يوصي إلى غيره لينجز له أعماله التي عجز عن تحقيقها في حياته أو حالت الظروف في عدم تحققها أو لديمومة استمرارها لأهميتها ، وهذه الغريزة الفطرية ملحوظة حتى عند الحيوانات ، إذ إن أكثرها عند ما يشعر بقرب موته ، ويرى علامات الموت ، فإنه يشيد لأفراخه بيتا محكما ، وعشا رصينا بعيدا عن كل خطر ، فهذا حال الحيوان فكيف بالإنسان الحريص على تحقيق أمانيه ومراميه ، فهل يعقل أن يذهب النبي من عالم الناسوت ويترك أمته تتلاعب بها الأهواء وتتقاذفها الشهوات وسطوات الجبارين والظالمين المستبدين يغيّرون دينه ويبدّلون أحكامه وينهبون تراثه؟!
هذا بحسب الفطرة ، وأما بحسب العقل ، فلا شك أنّ العقل يفرض سيطرته على الإنسان من خلال ما يفكّر به الإنسان نفسه من ضرورة الاهتمام بأموره وتنظيمها وعدم إهمالها ، ويدرك أن عليه تعيين وصي له بعده لحفظها وحراستها لتنظيم آثاره والإفادة منها ويوصي بالمحافظة عليها لكي يتسنى له الإفادة منها بعد موته بنفس المقدار الذي كان يطمع أن يفيد منها في حياته ، والعقلاء في العالم ينظرون إلى الشخص الذي يموت بلا وصية تاركا وراءه زوجة وذرية ومحلا تجاريا أو مزرعة أو أمرا متعلقا بالحكومة أو بالمسائل العلمية ، أو أمثال ذلك بدون تدبير ، ينظرون إلى مثل هذا الشخص نظرة امتهان وازدراء ، ويرونه إنسانا ناقصا ويذمونه على ترك الوصيّة ، على عكس ما لو أوصى وعيّن له وصيّا كفوءا خبيرا بصيرا مدبّرا يدير شئونه ويتولّى أمر ذريّته من أولاده الصغار وغيرهم ، فإنّهم يثنون عليه ويمجّدونه وينظرون إلى عمله بوصفه عملا إنسانيا.
وأما حكم الشرع الذي شرّع على أساس حكم الفطرة وحكم العقل ، والوصية في ضوئه حكم ممدوح ومستحسن في جميع الشرائع والأديان. وقد