فالبخاري أعلم بهذه المسألة وأولى بالصواب فيها من جميع من خالفه ، وكلامه أوضح وأمتن من كلام أبي عبد الله ، فإنّ الإمام أحمد سد الذريعة حيث منع إطلاق لفظ المخلوق نفيا وإثباتا على اللفظ. فقالت طائفة : أراد سد باب الكلام في ذلك ، وقالت طائفة منهم ابن قتيبة : إنما كره أحمد ذلك ومنع ، لأن اللفظ في اللغة الرمي والإسقاط ، يقال لفظ الطعام من فيه ولفظ الشيء من يده إذا رمى به. فكره أحمد إطلاق ذلك علي القرآن. وقالت طائفة إنما مراد أحمد أن اللفظ غير الملفوظ فلذلك قال : إن من زعم أن لفظه بالقرآن مخلوق فهو جهمي.
وأما منعه أن يقال : لفظي بالقرآن غير مخلوق ، فإنما منع ذلك لأنه عدول عن نفس قول السلف ، فإنهم قالوا القرآن غير مخلوق ، والقرآن اسم يتناول اللفظ والمعنى ، فإذا خص اللفظ بكونه غير مخلوق كان ذلك زيادة في الكلام أو نقصا من المعنى ، فإن القرآن كله غير مخلوق ، فلا وجه لتخصيص ذلك بألفاظ خاصة ، وهذا كما قال قائل : السبع الطوال من القرآن غير مخلوقة فإنه وإن كان صحيحا ، لكن هذا التخصيص ممنوع منه ، وكل هذا عدول عما أراده الإمام أحمد.
وهذا المنع في النفي والإثبات من كمال علمه باللغة والسنة وتحقيقه لهذا الباب فإنه امتحن به ما لم. يمتحن به غيره ، وصار كلامه قدوة وإماما لحزب الرسول صلىاللهعليهوسلم إلى يوم القيامة ، والذي قصده أحمد أن اللفظ يراد به أمران (أحدهما) الملفوظ نفسه وهو غير مقدور للعبد ولا فعل له (الثاني) التلفظ به والأداء له وفعل العبد ، فإطلاق الخلق على اللفظ قد توهم المعنى الأول وهو خطأ ، وإطلاق نفي الخلق عليه قد يوهم المعنى الثاني وهو خطأ ، فمنع الإطلاقين.
وأبو عبد الله البخاري ميز وفصل وأشبع الكلام في ذلك وفرق بين ما قام بالرب وبين ما قام بالعبد ، وأوقع المخلوق على تلفظ العباد وأصواتهم وحركاتهم وإكسابهم ، ونفي اسم الخلق عن الملفوظ وهو القرآن الذي سمعه جبرائيل من