أحكم الحاكمين وأعلم العالمين وأغنى الأغنياء وأرحم الراحمين ، وأنه لم يأمر العباد إلا بما فعله خير لهم وأصلح وأنفع لهم من تركه فأمرهم بما أمرهم لمصلحة عائدة عليهم ، كما رزقهم الطعام والشراب وغيرهما من النعم ، فالسعداء استعملوا أمره وشرعه لحفظ صحة قلوبهم وكماله وصلاحها بمنزلة استعمالهم رزقه لحفظ صحة أجسامهم وصلاحها ، وتيقنوا أنه كما لا بقاء للبدن ولا صحة ولا صلاح إلا بتناول غذائه الّذي جعل له ، فكذلك لا صلاح للقلب والروح ، ولا فلاح ولا نعيم إلا بتناول غذائه الذي جعل له.
وهذا وإن ألقيت إلى طائفة من الناس أنه لا مصلحة للمكلفين فيما أمروا به ، نهوا عنه ولا منفعة لهم فيه ولا خير ، ولا فرق في نفس الأمر بين فعل هذا وترك هذا ، ولكن أمروا ونهوا لمجرد الامتحان والاختبار ولا فرق ، فلم يؤمروا بحسن ولم ينهوا عن قبيح ، بل ليس في نفس الأمر لا حسن ولا قبيح ومن عجيب أمرك وأمرهم أنك أوحيت إليهم هذا فردوا به عليك فجعلوا جواب أسئلتك فدفعوها كلها ، وقالوا : إنما تتوجه هذه الأسئلة في حق من يفعل لعلة أو غرض ، وأما من فعله بديء من العلل والأغراض فلا يتوجه عليه سؤال واحد من هذه الأسئلة ، فإن ، كانت هذه القاعدة حقا فقد اندفعت أسئلتك كلها ، وإن كانت باطلا والحق فى خلافها فقد بطلت أسئلتكم أيضا كما تقدم ، يوضحه.
الوجه الثالث : أن نقول لعدو الله : إما أن تسلم حكم الله في خلقه وأمره ، وإما أن تجحده وتنكره ، فإن سلمتها وأنه سبحانه حكيم في خلقك حكيم في أمرك بالسجود ، بطلت الأسئلة وكنت معترفا بأنك أوردتها على من تبهر حكمته العقول ، فبتسليمك هذه الحكمة التي لا سبيل للمخلوقين إلى المشاركة فيها يعود على أسئلتك الفاسدة بالنقض ، وإن رجعت عن الإقرار له بالحكمة ، وقلت لا يفعل لحكمة البتة بل (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) (الأنبياء : ٢٣) فما وجه إيراد هذه الأسئلة على من لم يفعل لحكمة؟ فقد أوردت الأسئلة على من لا يسأل عما يفعل ؛ وطعنت في حكمة من كل أفعاله حكمة ومصلحة وعدل وخير بمعقولك الفاسد.